مع بداية عقد الستينات، أشرف الازدهار الذي اندلع في الحقبة التالية على نهاية الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، أعني الخمسة و العشرين عاما التي اتصفت بنمو النشاطات الاقتصادية على نحو انفجاري، وبحصول الطبقة العاملة، في الدول الصناعية على أدنى تقدير، على حقوق اجتماعية كانت محجوبة عنها سابقا، وبتحسن المستويات المعيشية على نحو لم يكن معهودا في سابق الزمن. ويعود سبب بلوغ هذا التطور نهايته إلى تدهور الداخلي الذي نزل بنظام بريتون وودز، فعلى خلفية تزايد الاستثمارات الأمريكية في العالم الخارجي، وارتفاع الإنفاق المخصص للقوات المسلحة بمقادير مضاعفة – لتمويل الحرب الأمريكية على فيتنام على نحو مخصوص –تزايدت على المستوى العالمي، كمية الدولارات المتداولة، بنحو مطرد، وباءت بالفشل كل ما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من تدابير ترمي إلى التحكم في التوسع الهائل في كمية الدولارات المتداولة في العالم، وذلك لأن رأس المال الأمريكي كان قد اختلط برأس المال الدولي، وتبين من هذا الاختلاط أن  القوة المالية المتراكمة لم يعد في إمكان أمة واحدة التحكم فيها وكبح جماحها.

وفي العام 1971، سجلت الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها، عجزا في ميزان المدفوعات الأمريكي، وكان عدم التناسب بين كمية الدولار المتداولة في العالم و احتياطي الذهب، المخزن في فورت نوكس fort knox ، قد بلغ، في غضون ذلك، مستويات أثبتت أنه حتى رفع سعر الذهب، في بادئ الأمر، إلى 38 دولار ومن ثم إلى 42.20 دولار للأوقية الواحدة، ما عاد يضمن تحقيق التناسب المطلوب. وعلى الصعيد نفسه، ما كان لدى الرئيس الأمريكي نيكسون غير الوقوف على نحو صارم في وجه هذا التطور، وأن يعلن في العام 1971 فك ارتباط الدولار بالذهب، بالأسلوب الفوقي، المعهود من قوة عظمى، أعني بلا تنسيق أو اتفاق، مسبقين، مع حلفائه.

في ديسمبر1971، اتخذ اجتماع ضم مجموعة الدول العشر ( أي المجموعة التي اتفقت اكبر عشر دول صناعية في العالم على تأسيسها في العام 1961) قرار يقضي بتعديل أسعار صرف العملات مقابل الدولار الأمريكي، وتثبيت سعر جديد. وكان هذا الإجراء قد تمخض عن خفض قيمة الدولار بمقدار تراوح بين 7.5 في المائة مقابل الليرة الإيطالية، التي كانت وقتذاك عملة ضعيفة، لا يعتد بها كثيرا في أسواق المال الدولية، و 16.9 في المائة مقابل الين الياباني، العملة القوية وذات المكانة المرموقة في المعاملات الدولية. وفي فبراير 1973، خفضت قيمة الدولار مجددا، بيد أن هذا الخفض لم يجد نفعا، فقد بات واضحا أن نظام أسعار الصرف الثابتة ما عاد يتمتع بمقومات الحياة الطويلة. وهكذا، وفي مارس 1973 تحولت مجموعة العشرة 10G، وبضع دول صناعية أخرى، إلى نظام أسعار الصرف الزاحفة CRAWLING PEG ، أي اعتمدت أسعار صرف يتدخل المصرف المركزي، أيضا في تحديدها من غير حاجة إلى إشراك أي بلد آخر في القرارات التي يتخذها البلد المعني في مجال الصرف الأجنبي. وغني عن البيان أن النظام وثيقة إنشاء صندوق النقد الدولي، بشأن أسعار الصرف الثابتة و أهميتها في استقرار قيمة عملات الدول المختلفة.

وغني عن البيان أن التخلي عن نظام أسعار الصرف الثابتة قد أنهى، تاريخيا، وظائف الصندوق الأساسية. وبهذا المعنى لم يبقى للصندوق غير أداء دور الممول الذي بمقدوره ممارسة التأثير المباشر في سياسة الدولة المقترضة، وذلك من خلال الموافقة أو عدم الموافقة على إمداد الدولة المتعثرة بالسيولة المطلوبة، ومن خلال ربط الائتمان بشروط معينة، ومن خلال إطلاع الصندوق على حسابات الدولة مقدمة الالتماس. ولم يدم الأمر طويلا حتى تبلورت – على نحو جديد، وبصورة مأساوية، وبسبب لم يكن في الحسبان في الواقع – ظروف كانت تتماهى بصورة جيدة مع هذه الوظيفة على وجه الخصوص.

ففي عام 1973 انتهز أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول (OPEC) التي أسست في العام 1960 فرصة اندلاع حرب 6 أكتوبر بين مصر وإسرائيل، وراحوا يخفضون صادرات البترول إلى العالم الغربي، ولتحقيق ارتفاع كبير في أسعار البترول. ومن خلال هذا الإجراء حققت شركات البترول العملاقة و الدول المصدرة للبترول ارتفاعات عظيمة في أرباحها، وتراكمت هذه الأرباح لدى مصارف تجارية، كانت قد حاولت، من ناحيتها، استثمار هذه الأموال في مجالات تدر عليها الربح الوفير. وبما أن الاقتصاد العالمي كان في العام 1974/ 1975 قد أمسى يمر بحالة كساد شديد RECESSION، ولما كانت الفرص الاستثمارية قد تراجعت بشكل كبير في البلدان الصناعية، فقد جرى إقراض الجزء الأعظم من المال المتراكم إلى دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، أي تم إقراضه إلى تلك الدول، وعلى نحو مخصوص، تلك التي كانت في أمس الحاجة إلى هذه القروض،لتغطية النفقات المتزايدة بفعل ارتفاع أسعار البترول. وأعار الصندوق انتباهه إلى حاجة بلدان العالم الثالث للقروض، فاستحدث في العام 1974 ما يسمى تسهيل الصندوق الموسع EXTENDED FUND FACILITY، متيحا بذلك للدول الأعضاء الفرصة لأن تحصل على قروض يبلغ مقدارها 140 في المائة من حصة البلد المعني وبفترات تسديد تتراوح بين أربعة أعوام ونصف العام وعشر سنين.

ومع أن التسهيل المذكور استحدث – كما قيل بصريح العبارة – لتمويل الواردات البترولية، التي ليس بمستطاع البلد المعني الاستغناء عنها، فإن الصندوق لم يعر أهمية تذكر – حاله في ذلك حال المصارف التجارية – للمجالات التي أنفقت عليها القروض. وهكذا، فسواء اختفت هذه المبالغ في جيوب حكام مستبدين، من قبيل رئيس زائير موبوتو، و الرئيس العراقي صدام حسين، أو الرئيس الإندونيسي سوهارتو، وذلك إما فاتهم أن يخفوها في حسابات مصرفية أجنبية، سرية، وإنما أنهم أنفقوها على المجالات العسكرية المعززة لسلطانهم، وإما أنها أدت إلى زيادة المديونية على نحو ما، إن هذا كله لم يشغل بال الصندوق و المصاريف التجارية، فبالنسبة إليهم كان الأمر المهم هو أن يتسلموا أقساط الفوائد بانتظام.

غير أن هذا الوضع، تغير فجأة، فالمحافظ الجديد للمصرف المركزي الأمريكي ( بنك الاحتياط الفدرالي) بول فوكر  (PAUL VOCKER ) رفع معدل الفائدة القيادي ( أي معدل الفائدة الذي يفرضه المصرف المركزي على القروض التي يمنحها للمصارف التجارية ) بنسبة بلغت 300 في المائة في العام 1979، وذلك بهدف خفض معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه السياسة قد تسببت في تفاقم الكساد مجددا في الولايات المتحدة، وترتب على الكساد تراجع ملحوظ في الطلب على المواد الأولية، وذلك كانعكاس للضعف الذي رزحت تحت وطأته النشاطات الاقتصادية.

وبالنسبة إلى الكثير من الدول النامية كانت الخلطة المؤلفة من طلب سلعي متراجع، ومواد أولية تنخفض أسعارها بلا انقطاع، ومعدلات فائدة ترتفع على نحو انفجاري، كانت هذه الخلطة تعني أنها أصبحت غير قادرة على تسديد أقساط الدين المفروض عليها الوفاء بها مقابل المصارف الدولية العملاقة. وعلى خلفية هذه التطورات، بلغ عبء الديون المتراكمة بذمة البلدان النامية ما مجموعه 567 مليار دولار أمريكي في العام 1980. وهكذا، فلو كان قد حصل تعثر في تسديد هذه الديون العظيمة القيمة، لتعرض العديد من المصارف التجارية الغربية، أيضا، لمحنة مثيرة للرعب، ولتعين الأخذ بيدها وإنقاذها من محنتها في كل الأحوال.

وكانت المعطيات قد أشارت، بناءا على هذه التطورات إلى أنه حان الآن وقت الصندوق لأداء دور الملاذ الأخير للتزويد بالسيولة، ففي الوقت الذي كانت الدائرة المكلفة، في الصندوق، برعاية العلاقات العامة، تذيع، من خلال وسائل الإعلام، على الملأ، أن الصندوق، يدرس إمكان تقديم ” حزمة إجراءات ” لإنقاذ البلدان الغارقة في ديونها، انتهز الصندوق الفرصة، فجعل، بناء على قوته الاحتكارية، التي لا يرقى إليها الشك، موافقته على منح القروض رهنا بتنفيذ شروط ثابتة، لا تقبل أي مناقشة. وفي نهجه هذا استقى الصندوق دروسا قيمة، من تجربتين، كان قد عاشها في السنين الماضية.

من ناحية، كان الانقلاب العسكري في تشيلي في سبتمبر 1973، قد أنهى حكومة الرئيس الاشتراكي سالفا دور أليندي بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( CIA )، وسلم زمام السلطة إلى الديكتاتور الفاشي أوغستو بينوشيه. وفي حين نجح بينوشيه، بيسر، في إلغاء كل عمليات التأميم المنفذة من قبل أليندي، غير أنه عجز كليا استحداث وسيلة فعالة للتعامل بنجاح مع التضخم الجامح الذي اجتاح بلاده. وللسيطرة على الوضع اتصل بينوشيه بمجموعة تضم 30 اقتصاديا أكاديميا من مواطني تشيلي ( درج المرء على تسميتهم صبيان شيكاغو CHICAGO BOYS )، وذلك لأنهم درسوا العلوم الاقتصادية على يد ميلتون فريدمان، الاقتصادي الأمريكي ، الحائز على نوبل و الذي كان يمارس التدريس في الكلية المسماة CHICAGO SCHOOL OF ECONOMICS  عارضا عليهم المشاركة في تقسيم عمل دقيق من حيث هدفه، واضح من حيث المطلوب من: في حين يتكفل بينوشيه بقمع كل ضروب المعارضة السياسية وصيغ النقابات العمالية، و القضاء على كل أنواع الإضرابات و الانتفاضات العمالية، فيما يقوم هؤلاء الاقتصاديون بصياغة برنامج يسترشد بأسس الأفكار الليبرالية الحديثة، ويفرض على البلاد تقشفا ماليا يذهب إلى أبعد مدى ممكن.

وخلال بضعة أسابيع، تمت صياغة برنامج واسع النطاق، نص على خفض الكمية النقدية المتداولة على نحو صارم وفعال، وعلى ضرورة خفض الإنفاق الحكومي، وتسريح أكبر قدر ممكن من الموظفين الحكوميين، وتنفيذ الخصخصة في القطاع الصحي و التعليمي. وفي حين نص هذا البرنامج بصريح العبارة على ضرورة خفض أجور العاملين وزيادة المعدلات الضريبية المستوفاة من الأفراد العاملين، فإنه، نص في ذات الوقت، على أهمية خفض الضرائب الجمركية و الضرائب المستوفاة من الشركات. ووصف الطرفان، بينوشيه ” وصبيان شيكاغو ” هذا البرنامج بأنه  “علاج بالصدمة ” SCHOCH THERAPIE .

ونفذ الطرفان، أعني بينوشيه وشركاءه، ما اتفقوا عليه بالكامل وأكثر من الكامل، وعرضوا أنفسهم أمام الرأي العام كما لو كانوا ” حكومة خبراء “. وفي حين قمع الديكتاتور، على نحو وحشي، كل الاحتجاجات المناوئة للإجراءات العنيفة، واتخذ كل ما يلزم لأن يختفي، إلى الأبد، كثير من المعارضين، كان صبيان شيكاغو قد أعدو العدة لشن هجوم مباشر على الأفراد الكادحين. فقد عملوا كل ما في مستطاعهم لكي يتفاقم مستوى البطالة في البلاد، وبفضل جهودهم ارتفعت البطالة، التي كان معدلها لا يزيد على 3 في المائة في العام 1973، إلى معدل بلغ 18 ;7 في المائة في العام 1975، وبلغ معدل التضخم، في الفترة الزمنية نفسها، 341 في المائة، وتعاظم الفقر، وفقر تلك الفئات على وجه الخصوص، التي هي في عداد أفقر الفقراء، أي التي  تعيش تحت خط الفقر أصلا، وأفرز هذا البرنامج تفاقم التفاوت الاجتماعي على مدى عقود كثيرة من الزمن. ، ففي العام 1980، استحوذ 10 في المائة من سكان تشيلي على 36.5 في المائة من الداخل القومي، وفي العام 1989 على 8،46 في المائة، وفي المقابل، وبقدر تعلق الأمر ب 50 في المائة الآخرين، أعني المواطنين الذين يقفون في أدنى درجات السلم الاجتماعي، فإن الملاحظ هو أن حصتهم من الدخل القومي قد انخفضت، في الفترة ذاتها، من 4،20 في المائة إلى 8،16 في المائة.

وفيما كان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية يساندون بينوشيه، بقوة، في مسعاه إلى تنفيذ انقلاب عسكري دموي، ساند صندوق النقد الدولي صبيان شيكاغو، أعني المجموعة التي كانت مسؤولة عن تنفيذ أقسى برنامج تقشف مالي عرفته أمريكا الجنوبية عبر التاريخ، بلا حدود وبغير تحفظ، فمع أن حقوق الإنسان قد انتهكت بكل وحشية، نلاحظ، أن الصندوق قد ضاعف من قروضه إلى تشيلي بعد عام من انقلاب بينوشيه، وأنه زاد قيمة قروضه إلى أربعة أضعاف، ومن ثم إلى خمسة أضعاف في العامين التاليين.

وكانت التجربة الثانية، التي مر بها الصندوق، ذات علاقة ببريطانيا، فالتدهور الاقتصادي، الذي تعرضت له بريطانيا، على نحو متواصل، وبسرعة لا قدرة على صدها، كان قد جعل البلاد، في أول عقدين ونصف العقد من نشأة الصندوق، أكبر مستلف من الصندوق، فمن العام 1947 حتى 1971 استدانت الحكومة البريطانية ما قيمته الإجمالية 25،7 مليار دولار أمريكي، وعقب اندلاع الكساد في 1974/1975، وتعرض الجنيه لعملية مضاربة واسعة وعنيفة، كانت الحكومة البريطانية تئن تحت وطأة ضغوط متزايدة العنف. وحينما توجهت في العام 1976 صوب الصندوق مجددا، أملا في الحصول على مساعدته في هذه المرة أيضا، انتهزت الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة بصورة غاية في القسوة لاختبار مدى هيمنتها على الصندوق، فبفضل تحالفها مع الألمان، المفعمين بالقوة من جديد، نجحت الولايات المتحدة في إكراه الحكومة العمالية، التي كان يترأسها هارولد ولسون وقتذاك، في خفض الإنفاق الحكومي، وفي إجبارها على تنفيذ سياسة ضريبية شديدة القيود، و التخلي عن كل القيود المفروضة على الواردات.  انطوى هذا التدخل على اعتداء، على نحو ما كان له مثيل في السابق، على سيادة دولة أوروبية تسعى إلى الحصول على تمويل هي في أمس الحاجة إليه. وكان هذا التطور قد أدى إلى ألا تطلب أبدا، ولا حتى دولة صناعية واحدة، من الدول الصناعية الرئيسية في العالم الغربي ثانية، قرضا من الصندوق.

المصدر:

كتاب، صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية، الكاتب، بريتوريا أرنست فولف، ترجمة، الدكتور عدنان عباس علي، نشر سلسلة عالم المعرفة، العدد 435.أبريل 2016، ص، من 37 إلى 44.

رقن http://arabic.cadtm.org