ارتأيت قبل أن يبدأ القراء  هذا المقال، إحالتهم على أحد المراجع المهمة لفهم كيف بدأ الاستعمار و كيف حولت الشركات الكبرى الثروات الهائلة إلى بلدان قوى الاستعمار الأوروبية، و قد شاءت المصادفة، حين بدأت تعريب هذا المقال الرائع لا أزال أطالع  كتاب” التاريخ الشعبي للولايات المتحدة ” لمؤلفه الأمريكي هوارد زن. الكتاب يعود بنا في جزءه الأول إلى إحدى الصفحات من تاريخ البلد ( الولايات المتحدة الأمريكية )المطموس، و التي أعني بها فترة “العبودية “،  تلك الفترة المظلمة، التي أراق فيها الاستعمار بكل الوسائل دماء السكان الأصليين ومات خلالها  الأفارقة حديثو العهد بتلك الأراضي تحت سياط مالكي إقطاعيات القطن العديدة. لقد نظم المستعمرون أبشع التعذيب و الاستغلال من أجل  ترويضهم أو طردهم من أراضيهم أو سرقة انتاج عملهم بهدف تحقيق أكبر الأرباح ( في المزارع كعبيد  و في المنازل كخدم ….) و توفير ما تحتاجه أوروبا من مواد زراعية و أخرى خام . ولكن الكتاب يتطرق أيضا إلى فترات مضيئة رائعة بين فينة و أخرى، إحمرت  بدماء المطالبين بالحرية و الانعتاق من نير الاستغلال الرأسمالي على مدى عقود من الزمن.

الكتاب موجود بالإنترنت و لدى مناهضي العولمة الرأسمالية لمن يود أن يحصل على فهم أعمق و تاريخي لعلاقات الاستغلال و النهب العالمية.

علاقات  شمال ـ جنوب: خمسة قرون من الاستغلال والنهب

وجد العنف بالطبع في كل مكان في تاريخ البشرية، بغض النظر عن الثقافات ومناطق العالم.  هكذا ، فإنه سيأخذ سمة خاصة (في حجمه وشكله) تمثل في فرض نمط إنتاج جد فردي، من قبل القوى الأوروبية على العالم ، الرأسمالية. وعلى عكس ما يدافع عنه بعض المثقفين، فإن هذا النظام ليس المصير “الطبيعي” لأي مجتمع إنساني. بل على العكس من ذلك، كثيرا ما تم فرضه عن طريق العنف والإكراه، ولا سيما عن طريق الاستعمار. وكثيرا ما يتم عرض عام 1492 على أنه التاريخ الرمزي الذي هز العالم إلى صيرورة غير مسبوقة من نهب للثروات، التي تستمر حتى اليوم والتي بدونها من المستحيل أن نفهم الانقسام الشهير بين الشمال والجنوب.

و”اكتشفت” أوروبا العالم

عندما بدأ أولا الأوروبيون باكتشاف العالم، كان تفوقهم الاقتصادي والتكنولوجي بعيد المنال. ويتفق معظم الباحثين على أن مستويات التطور (مع جميع الاحتياطات المرافقة لهذه الكلمة) في أوروبا ومناطق أخرى هي مماثلة تقريبا (الممالك قبل الكولومبية، جنوب شرق الصين ، وبعض المناطق في أفريقيا، و إلخ.) | 1 | ونتيجة لذلك، نتجت العوامل التي شجعت غزو بلدان أخرى  للمصادفات الجغرافية (زيادة التقارب بين أمريكا وأوروبا، وغياب الخيول بأراضي العالم الجديد، والحصانة الجرثومية للأوروبيين بفعل الارتباطات القديمة بالقطعان ، و انتشار الإبتكارات من جانبي أوراسيا، إلخ. | 2 | والسياسة ( شجع تقسيم الأراضي الأوروبية، الفتح الخارجي، وسهولة السيطرة على الحدود الداخلية، على عكس الصين، على سبيل المثال؛ فإن إمبراطوريات الإنكا والإزتيك كانت هرمية جدا، وسهل الاستيلاء على السلطات السيطرة الاستعمارية، إلخ). و الحالة هذه، لا يمكن إنكار أن غزو أمريكا ساهم في مد أوروبا بتفوقها الاقتصادي لقرون بعدها. إن اكتشاف واستغلال المنتجات الغذائية الجديدة (السكر والتبغ والبطاطس، وما إلى ذلك) فضلا عن نهب الموارد المعدنية (الذهب والفضة) من البلدان المكتشفة ستشكل مؤهلات كبيرة للقوى البحرية، مما يسمح أحيانا لبدء سيرورة التصنيع المبكر (انكلترا)، وأحيانا إلى أرستقراطية طفيلية للحصول على المنتجات الفاخرة دون قياس مشترك (إسبانيا). و بطبيعة الحال، فإن أساس هذا النهب سيكون عنفا جسديا كبيرا، أولا ضد السكان الأصليين، ثم ضد العبيد الأفارقة. ونحن نرى بالفعل كيف أن القارتين تدمجان الاقتصاد المعولم بالإجبار وإراقة الدماء.

المبادئ الرأسمالية تفرض على العالم

في الواقع، إن المبادئ التي ستكون تلك الخاصة بالرأسمالية ستسمح للمستعمرين بتبرير تملك الموارد (الطبيعية والبشرية) للعوالم الجديدة. بدءا من مفهوم الملكية الخاصة للأرض، وغالبا ما تكون غير معروفة في العديد من السكان الذين يفضلون نهجا مشاعيا للأرض (باستثناء امبراطوريات العبودية مثل الإنكا أو والإزتيك). سمح غياب السندات الرسمية على الأرض،  للأوروبيين “قانونيا” بمصادرة جميع الأراضي من مالكيها، وطردهم عندما لا يتم ببساطة ذبحهم.

من جهة أخرى، وخلافا للمثل الليبرالي الذي يعلي من قيمة المنافسة الصحية والكاملة، تقوم الرأسمالية منذ ظهورها لقرون قبل كل شيء على التحايل على قواعد المنافسة لتحقيق أرباح استثنائية. و بالتالي فمن الطبيعي أن تستوعب تماما الاكتشافات العظيمة: ” تبحث الرأسمالية عن مواقع احتكارية، ستحصل عليها على وجه الخصوص عن طريق توسيع الدائرة التجارية لجعلها غير واضحة. و بالتالي تجد أفضل تجسيد لها في التجارة طويلة الأجل، الممارسة من قبل تجار البندقية و أيضا من قبل اليهود، و العرب أو الهنود “|3 | . ومن الواضح أن التوسع الحديث سيترافق تماما مع التجارة عبر الأطلسي.

وبعيدا عن البعد بين الشمال والجنوب، ينبغي التأكيد على أن هذا النظام سيسود منذ البداية من خلال مصادرة أراضي الفلاحين الإنجليز، ولا سيما من خلال السياجات الشهيرة. الذي سيكون أيضا منشأ سمة أساسية أخرى لفهم هذا النمط الخاص من الإنتاج، أي تكوين بروليتاريا مجبرة على بيع قوة عملها لتلبية احتياجاتها، بعد أن كانت راضية سابقا بإنتاجها المستقل نسبيا. وفي المستعمرات، سيسود هذا المبدأ أيضا و سيساهم في تكون بروليتاريا محلية، من أجل الرفع من ربح  المزارع و / أو مزارع المدن الكبرى. و تجذر الإشارة إلى أن النظام الضريبي سيعمل أيضا كأداة لإجبار السكان على تبني نظام العمل المأجور، والضرائب التي يجب دفعها على شكل نقدي، حيث ستضطر الشعوب إلى بيع قوتها العاملة للحصول عليها | 4 |. وهكذا نرى أن مبادئ الرأسمالية ذاتها (الملكية الخاصة للأراضي ووسائل الإنتاج والعمالة المأجورة) استخدمت منذ البداية لإجبار الملايين من الناس على اعتماد أسلوب إنتاج مفروض من الخارج.

 اللامساواة في التصنيع

في الواقع، يجب أن ندرك أن هذه المبادئ، مصادرة ونزع ملكية وسائل إنتاج أولئك الذين سيطلق عليهم “البروليتاريين” هي التي ستسمح لما سنطلق عليه استدلاليا  “الثورة الصناعية” . ولم يكن معظم الفلاحين سيوافقون أبدا على العمل في المصانع أو في المناجم غير الصحية إذا لم يجبروا على تجريدهم من أراضيهم.

و من ناحية أخرى، فإن استغلال العالم الجديد أمر بالغ الأهمية لعدة اعتبارات من أجل شرح التصنيع و ذلك لعدة أسباب. ستسمح الأراضي المكتشفة حديثا لانجلترا بتخفيف نظمها البيئية عن طريق إرسال سكانها “الفائضين” من أجل الخروج من عنق الزجاجة المالثوسية.  و من جهة أخرى ،وفقا للمؤرخ  Kenneth Pomeranz، هذه هي الميزة التي كانت لدى انكلترا على مناطق ذات التطور المماثل مثل yangzi في الصين | 5 |. وبطبيعة الحال، وكما ذكر آنفا، فإن نهب الموارد سيساهم أيضا في الازدهار الصناعي. ويشير الصحفي والباحث الأمريكي تشارلز سي مان Charles C. Mann إلى أهمية المطاط عبر مزارع شجر المطاط في أمريكا الجنوبية وأفريقيا في الصناعة الأوروبية |6|.

و أخيرا، يجب أن نلاحظ أيضا شركات التمليك وتدمير تقنيات “السكان الأصليين”. بالنسبة للمؤرخ الكبير فرناند بروديل ، فمن الواضح بالتالي أن انكلترا الفيكتورية نسخت نسيخ الصناعة ـ  البروتو الهندية قبل تدميرها، لتتخصص في إنتاج القطن وتغرق إمبراطوريتها(إنجلترا) بإنتاجها. بفعل خصوصية درجات التصنيع مختلفة فأول من يحققه يفوز بميزة دائمة مقارنة مع الآخرين، خصوصا عن طريق فرض سياسات التجارة الحرة والسماح لهم بوأد أي محاولة للتطور الصناعي في المهد. وهذا ما يفسر حقيقة أن غالبية بلدان العالم الثالث لا يزال لديها اقتصاد يعتمد أساسا على تصدير المواد الخام. نشير أيضا إلى أن الدولة الوحيدة غير الغربية التي شهدت سيرورة التصنيع المبكرة هي اليابان، لا سيما بسبب حكم ذاتي بوجه القوى الأوروبية.

إنشاء نظام الديون

وخلافا لما تعود البعض على قوله ، فإن الاستقلالات لم تكن مرادفا للتحرر الحقيقي من المستعمرين السابقين. منذ البداية سينشأ في الواقع نظام الاستعمار الجديد المكون من الفساد، والانقلابات واللجوء إلى الديون لصالح الدول الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات بهم. من أمريكا اللاتينية إلى جنوب شرق آسيا عبر أفريقيا، ستضطر العديد من البلدان لضمان استقلالها السياسي التعهد بعقود تفضيلية للحفاظ على احتكاراتهم السابقة( القوى الاستعمارية) و / أو اللجوء إلى الديون التي ستكون جيدة ومربحة أكثر من الهيمنة القديمة. هكذا فإن رؤساء الدول المعاندين تمت الإطاحة بهم أو اغتيالهم، لصالح شخصيات طفيلية منصاعة أكثر (بينوشيه، موبوتو، سوهارتو، إلخ).

وسيزداد هذا الاستغلال بواسطة الديون في الثمانينات بعد ما يسمى بـ”أزمة الديون”. وكان من شأن انخفاض أسعار المواد الخام التي تصدرها بلدان العالم الثالث إلى حد كبير، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة، أن يعجلا في إبراز مخاطر الديون. وهذا هي الحقبة الشهيرة لخطط التكيف الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي، حيث كان هدفها الوحيد هو تراكم العملات الأجنبية من أجل الوفاء بسداد الديون للدائنين. وستكون التدابير التي دعى إليها مماثلة في كل مكان، أي التخفيضات في جميع القطاعات “غير المنتجة” (الصحة والتعليم والخدمات العامة وما إلى ذلك)، والزيادات الضريبية (لا سيما ضريبة القيمة المضافة) والتخصص الاقتصادي وفقا للمزايا التنافسية للبلد. والنتيجة واضحة: إنفجار التفاوتات، وزيادة الفقر، وانتشار الأحياء الفقيرة | 7| حيثما طبقت هذه الخطط (و حتى اليوم في بلدان مثل اليونان أو إسبانيا).

نظام ضد الطبيعة

من المثير للاهتمام أيضا أن نلاحظ أن هذا العنف يمر منذ البداية ليس فقط ضد السكان المستغلين بل أيضا ضد بيئتهم، وحتى اليوم، ضد الطبيعة ككل. وبالتالي فإن ما يسمى في كثير من الأحيان   أنثروبوسين l’anthropocène  لا يمكن أن تفهم بشكل مستقل عن التنمية على نطاق عالمي، لنظام يعتمد حصرا على الربح وعلى الاستغلال البشري والطبيعي. وهكذا، منذ بداية الحقبة الاستعمارية، نرى فرض زراعة تتكون من زراعة أحادية كارثية ليس فقط لفائدة الاكتفاء الذاتي من الغذاء للسكان المعنيين | 8 |، ولكن أيضا للتنوع البيولوجي. وسوف تهدف هذه الزراعة الأحادية أساسا إلى تلبية الطلب على المنتجات الاستوائية من قبل المستهلكين الأوروبيين (الأكثر ثراء في معظم الوقت). جنبا إلى جنب مع تطبيق واسع النطاق لنظرية ريكاردو الشهيرة المزايا التنافسية، بحيث ستكون أصل حالة التخصص في بلدان العالم الثالث، الذي يستمر حتى اليوم والذي لا يزال يسمح لنا لشرح  لماذا الملايين من الكيلومترات لإنتاج منتجات مختلفة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن نهاية الاستعمار وفرض نظام الديون سيكونان أيضا هجوما على النظم الإيكولوجية في الجنوب، لأنه من ناحية، ستستخدم قروض البنك الدولي بانتظام لبناء الهياكل الأساسية التي تستهدف  تسهيل الاستغلال المفرط لبيئتهم الطبيعية (المناجم والموانئ ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم والسدود)، ومن ناحية أخرى، فإن خطط التكيف الهيكلي ستجبر البلدان المدينة على الضغط على مواردها من أجل جمع العملات الأجنبية لسداد ديونها. الديون. وهذا ما قيل للدكتاتور الإندونيسي سوهارتو أنه  لا ينبغي له التفكير في مديونية البلاد مادامت لهذه الأخيرة غابات من أجل تسديدها.

كل ما سبق لا يساعد فقط على فهم حالة الفقر المدقع الذي لا يزال يعيش فيه جزء كبير من سكان العالم، ولكنه أيضا يفسر جزئيا صعوبة الوعي البيئي بين السكان الأكثر ثراء، و أيضا بفعل أن العوامل الخارجية لإستهلاكهم المفرط | 10 |  توجد بعيدا عن بيئتهم.

وبعيدا عن هذه الحدود، فإن هذه الصورة الصغيرة جدا عن تاريخ العلاقات شمال ـ جنوب تجعل من الممكن فهم عدة أمور. أ) لا يمكن فهم هذا المفهوم بشكل مستقل عن علاقات القوى الرأسمالية التي تتطور خلال هذه الفترة. ب) من الأساسي أن ننظر كليا إلى استغلال السكان والطبيعة. ج) لا يمكن للمرء أن يفهم ما يسمى بالأزمة الإيكولوجية دون الإشارة إلى استمرار العلاقات الاستغلالية التي تطورت واستمرت على مدى خمسة قرون. لذلك، فإن كسر الجمود لا يمكن أن يتم دون التشكيك في منطق الهيمنة السياسية والاقتصادية الذي لا يزال نشطا اليوم.

13 أبريل : Renaud Duterme

النص الأصلي موجود بموقع : cadtm

تعريب : وحيد عسري

Source : Les Amis de la Terre Cet article est paru dans la revue annuelle des Amis de la Terre « Pour une économie non-violente ».

Notes

|1| Paul Bairoch, Robert C. Allen, Kenneth Pomeranz, Fernand Braudel, etc..

|2| Pour plus de détails sur les atouts géographiques de l’Europe sur l’Amérique, lire DIAMOND Jared,De l’inégalité parmi les sociétés, Gallimard, Paris, 2000.

|3| COLLECTIF, Dix questions sur le capitalisme aujourd’hui, éditions Sciences Humaines, Paris, 2014, p9.

|4| DAVIS Mike, Génocides tropicaux, La Découverte, Paris, 2006, p224 et 335.

|5| Ainsi que des réserves de charbon situées à proximité des nouveaux centres industriels. Lire à ce sujet POMERANZ Kenneth, Une grande divergence, Albin-Michel, Paris, 2010.

|6| MANN Charles C., 1493, Comment la découverte de l’Amérique a transformé le monde, Albin Michel, Paris, 2013, pp286-293.

|7| DAVIS Mike, Le pire des mondes possibles, La Découverte, Paris, 2010.

|8| Suite à une série de sécheresses consécutives à un épisode El niño, des millions de personnes périront de famines durant le XIXe siècle en raison de cette perte de souveraineté alimentaire. Se référer de nouveau à l’ouvrage DAVIS Mike, Génocides tropicaux, op.cit.

|9| Cité dans BROSWIMMER Franz, Une brève histoire de l’extinction en masse des espèces, Agone, Marseille, 2010.

|10| Les externalités sont les impacts sociaux et environnementaux qui n’entrent pas dans la comptabilité des processus de production. Parmi ces externalités, soulignons notamment les émissions de CO2, le démantèlement de déchets électroniques, l’épuisement des sols, etc.