يتناول هذا الفصل جذور أزمة الديون القائمة في مصر إلى اعتماد سياسات النيوليبرالية منذ إطلاق سياسة الباب المفتوح في منتصف السبعينات. سنوضح أولا كيف أدت هذه السياسات إلى أزمات الديون في أعوام 1987 و 1990، قبل أن نوضح كيف أن الموالين المتبقين لهذا النهج أبقوا مصر في حلقة مفرغة من الديون على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، ولم تتمكن من الخروج  إلا مؤقتا من مصيدة الديون بعد سنوات قليلة من خطة الإنقاذ الضخمة في عام 1990. ويناقش الفصل أن انكماش الديون الذي تعاني منه مصر هو أحد أعراض العجز الهيكلي في التجارة والعجز المالي الذي عانى منه الاقتصاد المصري خلال هذه الفترة. وعلى الرغم من فرصتين رئيسيتين في عامي 1990 و 2011 لإنهاء السياسات النيوليبرالية التي لعبت دورا هاما في الحفاظ على هذا العجز، فقد اختارت الحكومات / الأنظمة المتعاقبة أن تظل موالية للنهج النيوليبرالي. كما تأثر قرار البقاء بالولاء تأثرا قويا بدور مؤسسات بريتون وودز (وخاصة صندوق النقد الدولي) في الاقتصاد المصري حيث شاركوا بنشاط في عملية صنع السياسة الاقتصادية خاصة منذ عام 1990. و علاوة على ذلك، خلال كل الفترة التي شملتها الدراسة، تم إنفاق الديون المتراكمة (سواء المحلية أو الخارجية) في غياب الشفافية و إستراتيجية اقتصادية واضحة تكون فيها الديون أداة لتعزيز النمو الاقتصادي الشامل. وبدلا من المساهمة في تمويل الاستثمارات الإنتاجية بهدف حل المشاكل الهيكلية للاقتصاد، استخدمت الديون المجموعة باستمرار لتمويل النفقات الجارية دون عوائد محتملة. ونتيجة لذلك، وصلت مصر إلى الوضع الحتمي لإعادة تدوير ديونها، حيث أن جزءا كبيرا من الدين الذي يتم جمعه كل عام ينفق لخدمة الدين القائم.

وبعد تحليل لقاءات مصر السابقة مع صندوق النقد الدولي بعد عام 2011، وكذلك المكونات الرئيسية لبرنامج الإصلاح المقترح للأزمة الحالية، يخلص الفصل إلى أن الحلول المعروضة هي مجرد نسخة طبق الأصل من نفس السياسات التي دفعت الاقتصاد إلى هذه الأزمة ولن يؤدي إلا إلى إطالة أمد معاناة مصر، لأن الأسباب الهيكلية ستبقى دون حل. ومع عدم وجود تخفيف للديون على الطاولة، فإن الحلول القصيرة الأجل التي اقترحتها السلطات وصندوق النقد الدولي لن تؤدي إلا إلى تمديد عملية النزيف. وعلاوة على ذلك، فإن الافتقار إلى حلول طويلة الأجل يرسم صورة قاتمة جدا لمستقبل الاقتصاد ومصير سكانه ومعظمهم معرضون للخطر.

  1. أسباب أزمة الديون في سنوات 1980

في نهاية القرن العشرين، شهدت مصر أزمتين كبيرتين من الديون في عامي 1987 و 1990. وبحلول أوائل التسعينيات، وصلت أزمة الديون إلى ذروتها حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي 49 مليار دولار، أي ما يعادل 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وكان أعلى عبء للديون شهدته مصر منذ أزمة الديون في عام 1880. وبعد أن وصلت إلى نقطة لم تعد قادرة على تمويل وارداتها (التي شملت الغذاء)، تم تسليم مصر شريان الحياة عندما وافق نادي باريس على إعادة جدولة ديونها الخارجية في تبادل للالتزام باتفاق إصلاح صندوق النقد الدولي الذي أجبر مصر على الخضوع لسلسلة من سياسات “توافق واشنطن”. | 1 | إلا أن مصر فشلت في تنفيذ البرنامج واستمرت بالغرق في الدين حتى أوشكت على الإفلاس وطلبت التدخل الإلهي على شكل إعفاء من الديون مقابل مشاركتها في حرب الخليج.

تعود جذور مشكلة الديون الخارجية في مصر إلى اعتماد السياسة الاقتصادية المفتوحة (التحرير) في عام 1974. وقد حل النموذج الجديد محل إستراتيجية التصنيع للاستعاضة عن الواردات، بهدف إعادة إدماج الاقتصاد في النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي. | 2 | وعلى الرغم من سن قانون استثماري جديد لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن سياسة الباب المفتوح أخفقت في اجتذاب قدر معقول من الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي الفترة من 1974 إلى 1982، لم يتجاوز إجمالي الاستثمارات المنجزة بموجب القانون رقم 43 لعام 1974 خمسة مليارات جنيه. | 3 | وعلاوة على ذلك، في الثمانينيات، تحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي، معتمدا على مصادر خارجية للدخل، بينما أهمل قطاعاته الإنتاجية: الزراعة والصناعة التحويلية. وانخفضت حصة الصناعات التحويلية في إجمالي الاستثمارات من القطاعين الخاص والعام من 40 في المائة في الفترة 1967-1973إلى 19 في المائة فقط في فترة 1981-1991. ولم تكن تدابير التحرير الاقتصادي موجهة نحو إستراتيجية التصنيع الموجه نحو التصدير كنموذج شرق آسيا، وإنما إلى اقتصاد مفتوح نسبيا لكن سرعان ما أوقف التصنيع. [4] بحلول أواخر الثمانينيات، كانت الاختلالات الهيكلية الرئيسية في الاقتصاد المصري تعرقل النمو. وشمل ذلك عدم التوازن بين المداخيل الحكومية  والإنفاق، وبين المدخرات والاستثمار، والواردات والصادرات. | 5 | وقد كانت عدة سياسات بمثابة عوامل رئيسية تؤدي إلى هذه الاختلالات، وهي تشمل ما يلي::

ط) التحرير الاقتصادي السريع: صدر قرار تنفيذ تحرير التجارة والاستثمار على الرغم من أن مصر لم تحمي صناعاتها المحلية وبالتالي لم تتمكن من المنافسة في السوق العالمية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا النموذج الجديد أوقف إستراتيجية إحلال الواردات قبل أن تؤدي إلى قطاعات صناعية تعمل بكامل طاقتها، مما يعني أن مصر فشلت في تعزيز نمو الصادرات المصنعة غير النفطية وبالتالي فقدت فوائد توسع التجارة الدولية. | 6 | و بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في واردات المنتجات المصنعة، استوردت مصر أيضا كميات كبيرة من المواد الغذائية والزراعية نتيجة للتوسع الزراعي المحدود. | 7 | ونتيجة لذلك، كان لا بد من تمويل عجز متزايد في الحساب الجاري عن طريق الائتمانات الخارجية. وفي الفترة من 1975 إلى 1980، ارتفع الدين الخارجي من 6.3 مليار دولار إلى 19 مليار دولار وارتفع إلى ما يقرب من 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و 207 في المئة من صادرات السلع والخدمات في العام الأخير. | 8 | ومن سمات اقتراض مصر بين عامي 1970 و منتصف عام 1977 استخدام تسهيلات مصرفية قصيرة الأجل في شكل خطوط ائتمان متصلة بالتجارة لافتتاح خطابات الاعتماد وتأكيدها وقبول المشاريع الناشئة عن  معاملات التصديرـ الاستيراد |9 |.

2 – زيادة الاعتماد على مصادر الإيرادات الخارجية والمتقلبة للغاية:

كانت التقلبات في الإيرادات الحكومية في المقام الأول نتاجا للتطورات التي تؤثر على المصادر الريعية للدخل القومي. | 10 | وارتفعت الإيرادات الخارجية كنسبة من إجمالي الإيرادات الحكومية من أقل من 5 في المائة في عام 1975 إلى أكثر من 30 في المائة بحلول عام 1982، وتتألف أساسا من إيرادات قناة السويس، وصادرات النفط، وتحويلات العاملين، والإيرادات من السياحة. | 11 | وكان مدى التقلب واضحا في الفترة ما بين 1976 – 1986 التي شهدت سلسلة من التقلبات من الارتفاع الحاد في عائدات النفط لعام 1973 و 1979 إلى تباطؤ الاقتصاد الدولي حتى نهاية عام 1981 مع ما يترتب على ذلك من انخفاض في وأسعار النفط، وفي حركة قناة السويس، ثم انخفاض حاد في أسعار النفط في عام 1986. | 12 | وعلى الرغم من أن هذه الازدهار تسببت في تدفقات خارجية لم يسبق لها مثيل، فقد أثرت حالات الانهيار على آثار ضارة شديدة في ضوء تزايد فاتورة خدمة الديون. وأدى تدهور حالة النقد الأجنبي بسبب انخفاض الإيجارات في الفترة 1985-1998 إلى تراكم مطرد للمتأخرات في سداد الديون. | 13 | وقد تدهورت الحالة إلى حد أنه في عام 1986 بافتراض أن مصر قد سددت فعلا جميع التزاماتها، كان من شأن الدفع أن يصل إلى 114 في المائة من إيرادات البلد من تصدير السلع والخدمات في ذلك العام. | 14 |

3 ـ غياب إستراتيجية / رؤية اقتصادية في عملية الاقتراض:

استخدمت الديون لتمويل النفقات الجارية، وبالتالي لم تستثمر في أي أنشطة إنتاجية يمكن أن تحقق عائدات لسداد هذه القروض وتحقيق نمو اقتصادي. والواقع أنه وصل إلى نقطة عندما كان تولد المزيد من الديون لتغطية الديون القائمة. ولم تحدث أزمة الديون في عام 1987 بسبب هزة مفاجئة أو غير متوقعة، بل نجمت عن دائرة من المديونية المتزايدة تدريجيا، وتزايد التزامات خدمة الديون، وعجز الاقتصاد عن تحقيق عوائد كافية من النقد الأجنبي. | 15 | وكانت هناك حلقة مفرغة في الوقت الذي أدى فيه تخفيض الالتزامات الجديدة بالديون إلى تحويل جزء كبير من تدفقات الموارد الأجنبية إلى خدمة الديون القائمة. | 16 | وفي عام 1979، استخدمت التزامات خدمة الدين الخارجي نحو 60 في المائة من إجمالي مدفوعات القروض الأجنبية. |17| ومع الزيادة الحادة في مدفوعات خدمة الدين والانخفاض المستمر في النفقات من الاقتراض الخارجي، بلغت خدمة الدين بحلول عام 1982 ما يقرب من 100 في المائة من إجمالي القروض الجديدة. |18| حتى عندما شهد الاقتصاد المصري تدفقا في الإيرادات، كان النظام لا يزال يميل إلى الاقتراض وطلب المزيد من المساعدات من الخارج. وفي الوقت الذي تلقت فيه مصر تدفقات خارجية لم يسبق لها مثيل، زادت ديونها الخارجية من 3 مليارات دولار في عام 1974 إلى 19 مليار دولار في عام 1981 إلى 37 مليار دولار في عام 1986. وكان هذا الدين الخارجي المتصاعد نتيجة لارتفاع الواردات وانخفاض الصادرات التقليدية. وارتفع العجز التجاري من حوالي 5 مليارات دولار في الفترة 1985-1986 إلى حوالي 8.3 مليار دولار في الفترة 1988-1988. | 20 |

4) العجز المالي:

جاء مبارك إلى السلطة في وقت ارتفعت فيه مداخيل الدولة، |21| ولكن بعد عدة سنوات من حكمه بدأت مصادر الإيرادات المتقلبة تجف. وقد أدى انهيار أسعار النفط دورا رئيسيا في هذه العملية. | 22 | ولم تؤثر أسعار النفط والطاقة على صادرات النفط والغاز الطبيعي فحسب، كما أثرت على عائدات قناة السويس والتحويلات المالية. |23| كما انخفضت مداخيل الضرائب بأكثر من ثلث عائدات الحكومة من الضرائب على الأرباح الرأسمالية من الهيئة العامة للبترول وشركة قناة السويس والبنك المركزي. | 24 | وينبغي أن يؤدي انخفاض الدخل إلى انخفاض الإنفاق الحكومي. في حين أن مثل هذا التعديل يجعل من المنطق المالي، كما وصفها سامر سليمان بأنه “صندوق تربوي سياسي”. |25| ويوضح أن خفض النفقات الحكومية يعني خفض أو حتى وقف تدفق الأموال إلى المجموعات المالية التي تتوقعها. إن النظام الاستبدادي مثل مصر، الذي يعتمد على الصدقات لضمان سيطرتها على المجتمع ليس له سوى قدر ضئيل من المرونة عندما يتعلق الأمر بربط الأحزمة. |27 | ونتيجة لذلك، بدأ العجز الوطني يرتفع. وسرعان ما كانت مصر واحدة من أعلى حالات العجز في العالم في ذلك الوقت. وقد حقق الدين الداخلي قفزة نوعية خلال الثمانينيات عندما ارتفع من 15.7 مليار دولار في عام 1981 إلى ج. 32.6 مليار دولار أمريكي في عام 1991. | 28 |

وفي عام 1987، توصلت مصر إلى اتفاق لإعادة الجدولة مع نادي باريس، حيث أعيدت جدولة المتأخرات المستحقة البالغة 6،9 بليون دولار أمريكي، مع سداد جميع مدفوعات الفوائد والاستهلاك على القروض العامة والطويلة الأجل المستحقة حتى حزيران / يونيه 1988؛ وبلغ هذا 4.4 مليار دولار. | 29 | واتفق دائني نادي باريس أيضا، من حيث المبدأ، على الاجتماع مرة أخرى مع السلطات المصرية للنظر في مدفوعات خدمة الدين المستحقة بعد حزيران / يونيه 1988، شريطة امتثال مصر لعدد من الشروط. |30| و شملت هذه الشروط الحفاظ على اتفاق مع صندوق النقد الدولي، والتوقيع على اتفاقات ثنائية مع دائني نادي باريس وفقا لاتفاق نادي باريس، وضمان معاملة مماثلة من الدائنين الآخرين. |31| غير، أن معظم هذه الشروط لم تتحقق ولم تجر الجولة التالية من المفاوضات الناجحة بشأن مسألة الديون إلا بعد مرور أربع سنوات. | 32 |

وكما أشار خالد إكرام، كان من الممكن التنبؤ بالأزمة التي بلغت ذروتها في عام 1991. | 33 | وبما أن العجز في ميزانية مصر وفي ميزان مدفوعاتها المتراكم عن مصادر التمويل المتاحة، أصبحت أزمة الديون  و التخلف عن الأداء أمرا لا مفر منه. ولحسن الحظ، حدثت الأزمة الاقتصادية في عام 1991 في وقت كفل المانحون، بسبب دعم مصر في حرب الخليج، إنقاذا سخيا للصفقة التي أنقذت الاقتصاد المصري من التخلف الوشيك، وأتاحت لها سجلا نظيفا نادرا للبدء من جديد..

جدول المحتويات

  1. مقدمة
  2. أسباب أزمة الديون في سنوات 1980

III.  بعد أزمة الديون: فرصة ذهبية تبدد

آثار الديون على السياسات المعتمدة

  1. الوقوع في فخ الديون: 2000-2011

آثار الدين المترتبة على السياسات المعتمدة

  1. يناير 2011: فرصة أخرى ضائعة

IV  بعد عام 2011 – استمرار سياسات عهد مبارك دون الاستقرار النسبي الذي تمتع به النظام السابق

  • آثار الدين المترتبة على السياسات المعتمدة

VII.  هل يقدم صندوق النقد الدولي الحل؟

VIII.  تحديد البدائل التي لن يستتبعها تراكم المزيد من الديون

  1. خاتمة

تعريب: وحيد عسري

رابط النص الاصلي:http://www.cadtm.org/Egypt-s-debt-trap-The-neoliberal