الدين يلعب دورا محددا في التاريخ
كل تحليلاتك تنطلق من فكرة أن الدين يلعب دورا محددا في التاريخ ، لماذا؟
في سلسلة من الأحداث التاريخية الكبرى ، الدين السيادي كان عاملا مهيمنا. هذه الحالة كانت منذ بداية القرن التاسع عشر ، في الدول التي قاومت من أجل استقلالها ، في امريكا اللاتينية من المكسيك إلى الأرجنتين، كما في اليونان . من أجل تمويل حرب الاستقلال، هذه الدول الناشئة اقترضت من بنكيي لندن بشروط مجحفة، والتي أسقطتهم في الواقع في دورة جديدة من التبعية.
دول أخرى فقدت بشكل كامل، رسميا سيادتها. كانت تونس تتمتع باستقلالية نسبية في الإمبراطورية العثمانية ، لكنها كانت مديونة لبنكيي باريس، ومن الواضح أن فرنسا استعملت سلاح الدين لتبرر وضعها تحت الحماية، واستعمارها . بعد عشر سنوات، سنة 1982 مصر أيضا فقدت استقلاليتها، احتلت من طرف بريطانيا العظمى عسكريا ، والتي كانت تريد استرداد الديون التي تعاقدت عليها البلاد مع البنوك الانجليزية، قبل ان تتحول الى مستعمرة.
هل يمكننا أن نذهب الى حد القول أن الدين يستخدم بشكل يهدف الى “تأمين” مواقع هيمنة بلد على الآخر ؟
لا يتعلق الأمر بمؤامرة شاملة و منظمة، حيث أن الجمهوريين الإستقلاليين اليونانيين و الأمريكيين اللاتينين رجعوا إلى لندن من أجل اقتراض الأموال، وما سيأتي بعد ذلك لم يكن متوقعا من طرف الملكية في بريطانيا. لكن القوى العظمى سرعان ما رأت المصلحة التي يمكن أن تستمدها من المديونية الخارجية لدولة ما لتبرير التدخل العسكري ووضعها تحت الوصاية. في حقبة كان من المسموح القيام بحرب من أجل استرداد الدين.
توقفتم على أزمة الدين اليوناني في القرن التاسع عشر، التي تراها مشابهة نوعا ما للأزمة الحالية، لماذا؟
بدأت المشاكل بعد أول أزمة مصرفية دولية كبرى، التي اندلعت في لندن في ديسمبر 1825، لم تعد البنوك الضعيفة ترغب في الإقراض، و ذلك بعد أزمة الاخوة ليمان lehman Brothers سنة 2008. استدانت الدول الناشئة مثل اليونان بشروط مجحفة جدا، والمبالغ المحصلة كانت منخفضة جدا مقارنة بالمبالغ المقترضة فعليا ، والتي لم تتمكن من سداد قرضها دون اللجوء إلى قرض آخر، عندما توقفت البنوك عن الإقراض، لم تعد اليونان قادرة على إعادة تمويل دينها، فتوقفت عن السداد سنة 1827 …
هنا يكمن تشابه “نظام الدين” مع الوقت الحاضر : الملكيتين الفرنسية و البريطانية و القيصر الروسي-الترويكا- اتفقوا على منح قرض لليونان و السماح لها بأن تولد كدولة مستقلة، الشيء الذي يناسبهم ،لأن ذلك يزعزع استقرار الإمبراطورية العثمانية. في المقابل، وقعوا سنة 1832 ” اتفاقية بشأن سيادة اليونان” التي ضمنتها في كتابي. والتي خلقت ملكية في اليونان، بينما الاستقلاليين كانوا يريدون جمهورية.
الملك المختار، اوتون الأول Othon 1er هو أمير بافاري يبلغ من العمر 15 سنة، لا يتحدث اليونانية ، ولم يضع قط قدمه في اليونان. و تنص الوثيقة على أن من واجب هذا النظام الملكي أن يضع كأولوية في ميزانيته سداد الديون المتعاقد عليها مع القوى الثلاث، عن طريق البنك روتشيلد في باريس من اجل ادائها للبنوك اللندنية. يجب على اليونان تعويض النفقات التي تحملتها الترويكا من أجل تثبيت هذا النظام الملكي،مع تعيين 3500 من المرتزقة البافارية من أجل شن حرب “الاستقلال” ، يجب على اليونان تعويضها.
أبين أنه في بداية القرن التاسع عشر، %20 فقط من مبلغ القرض المقدم لليونان يذهب فعلا لليونان. الباقي يذهب إلى اللجان التي اتخذها بنك روتشيلد، والى الدفعات المقدمة للمرتزقة ، ونفقات سفرهم إلى اليونان، وغيرها من النفقات لتثبيت النظام الملكي.
منذ ذلك الحين، تعيش اليونان في حالة تبعية دائمة. لتتداعى مرة أخرى بشكل أكثر قوة سنة 2010. ومرة أخرى اجتمعت السلطات العمومية لجمع الأموال من أجل تسديد الديون للدائنين الخواص، وفي هذه الحالة هم الأبناك الفرنسية، الألمانية، البلجيكية و الهولندية.
يظهر التاريخ أيضا نوع من التحالف الموضوعي بين الطبقات المهيمنة للدول المدينة والدول الدائنة، التي تفضل “المحافظة “…
لن نستطيع فهم تاريخ نظام الديون دون الأخذ بعبن الاعتبار الدور الذي تلعبه الطبقة الحاكمة المحلية. في كل مثال ، تدفع السلطات إلى الاستدانة الداخلية و الخارجية ، لأن القرض يساهم في أن الضرائب المفروضة على البورجوازية لا تكون عالية . إنها تتصرف بشكل ريعي ، عن طريق الإستثمار هي نفسها في قروض الدولة التي تصدرها بلادها.
عندما رفض النظام الليبرالي الديمقراطي المكسيكي بينيتو خواريز جزء من الديون التي سبق أن تعهد بها المحافظون، طالب بعض البورجوازيين بالجنسية الفرنسية، من أجل أن تتدخل فرنسا عسكريا للإطاحة به، تحت طائلة تعويض رعاياها.
نفس الشيء اليوم، في نهاية 2001 عندما توقفت الارجنتين عن دفع ديونها، استاءت البورجوازية الأرجنتينية، لأن جزء كبيرا من الدين الصادر في وول ستريت كان مملوكا لرأسماليين أرجنتينيين .
من ناحية أخرى فإن مفهوم الدين “الكريه” ظهر في سنوات 1920، ولم يكن منحوتا من اليسار، أو من أولئك الذين نسميهم اليوم “الأممين”. من أين أتى ؟
خلال القرن التاسع العشر، هناك سلسلة من رفض تسديد الديون. خصوصا في الولايات المتحدة. سنة 1830 أربع ولايات في الولايات المتحدة تأثرت بالاضطرابات الاجتماعية التي أطاحت بحكوماتهم الفاسدة ورفضت الدين الذي تعاقدت عليه مع مصرفيين فاسدين، مشاريع البنيات التحتية التي كان من المفترض أن تمولها لم تتحقق بسبب الفساد .
سنة 1865، عندما ربح الشماليون ضد الجنوبيون، قرروا أن الأخيرين يجب أن يتبرؤوا من الديون المتعاقد عليها مع الأبناك من أجل تمويل الحرب (هذا مضمون التعديل الرابع عشر من الدستور الأمريكي) الدين الذي اعتبر”كريه”، لأنه استعمل من أجل الدفاع عن نظام العبودية.
في نهاية القرن التاسع عشر، رفضت الولايات المتحدة ايضا أن تقوم كوبا التي أصبحت مستقلة نتيجة لتدخلها العسكري، بتسديد الدين الذي تعاقدت عليه اسبانيا في باريس باسم مستعمرتها . فقد اعتبرته الولايات المتحدة “كريها” لأنه استعمل في تمويل السيطرة على كوبا و الحروب التي أجراها الاسبان في أماكن أخرى .
وفي سنة 1919 عندما رفضت كوستا ريكا تسديد الدين المقترض من طرف الدكتاتور السابق تينوكو، و الذي استفادت منه عائلته، تدخل الرئيس القديم للولايات المتحدة للتحكيم و صادق على عدم التسديد، لأن الاموال المقترضة كانت موجهة لأغراض شخصية .
وعلى أساس كل هذه الاجتهادات لرجل قانون روسي، نفي بعد الثورة البلشفية، طور فقها قانونيا ، يؤكد أن الدولة تبقى ملتزمة بالديون التي تعاقد عليها النظام السابق ، لكنه يضيف استثناء: إذا كان الدين قد تم التعاقد عليه ضد مصلحة الشعب وكان الدائنون على دراية بذلك، أو كان ينبغي أن يكون من خلال مراجعات، يمكن ان يتم إقراره كدين “كريه” و يكون مرفوض السداد.
ينبع هذا الفقه من أستاذ محافظ، يريد الدفاع عن مصالح الدائنين، ولكن أيضا يقول لهم يجب أن يولوا الاهتمام بالبحث حول من يقرضون ولماذا. وبذلك فإنه يؤكد أن هناك إمكانية للدول للتخلص من الدين إن كان كريها.
لماذا تعتبر دين اليونان كدين كريه؟
طلبت الترويكا من اليونان الحصول على قروض، والتي من الواضح انه تم منحها ضد مصلحة اليونانيين أنفسهم. و بما أنها فرضت تدابير أدت إلى تدهور ممارسة حقوقهم الأساسية وظروف معيشتهم. لقد أثبتنا أن المال المقترض يذهب على الفور إلى البنوك الأجنبية أو اليونانية المسؤولة عن الأزمة، ويمكننا أن نثبت أن حكومات الترويكا كانت واعية بذلك، لأنهم هم الذين يملون محتوى المذكرة، وكانوا الفاعلين المباشرين.
هل هذه الفكرة قابلة للتوسع في فرنسا ؟
نعم، أعمال مجموعات التدقيق، التي سلمت في أبريل 2014، تظهر أن 59% من الدين الفرنسي هي ديون غير شرعية. لم تخدم مصالح فرنسا، وإنما مصالح الاقلية التي استفادت من هدايا ضريبية وأبناك رفعت من معدلات الفائدة بشكل كبير.
بعد رفض الدفع، هل يمكن للدول ان تجد بنوكا على استعداد لإقراضهم مرة أخرى؟
هناك بالتأكيد خوف من الدائنين، لكن الفكرة السائدة بأن الدولة لا تستطيع أن ترفض الدفع تحت ضغط أنها لن تستطيع الاقتراض من بعد، هي فكرة خاطئة.
رفضت المكسيك، على سبيل المثال، دفع ديونها في كل من 1861، 1867، 1883، 1913 وعثرت على مقرضين جدد في كل مرة. لأن بعض البنكيين لا يترددون في الالتزام عندما يرون أن بلدا قد استعاد عافيته المالية الجيدة عن طريق تعليق سداد الدين أو رفض سداده.
البرتغال في 1837 رفضت دفع الدين، هذا لم يمنعها التعاقد مع بنكيين فرنسين من أجل 14 قرضا بشكل متتالي. رفض السوفييت سداد الديون في فبراير 1918، الديون التي تعاقد عليها القيصر، لأنها استعملت في شن الحرب. تم فرض الحصار، ولكن تم رفعه بعد عام 1922، لأن البريطانيين قرروا اقراضهم، من أجل شراء المعدات البريطانية، لتتبعهم كل من ألمانيا والنرويج والسويد وبلجيكا. حتى فرنسا تخلت عن الحصار، على الرغم من ان 1.6 مليون فرنسي اشتروا الاوراق المالية الروسية في credit lyonais رفض دفعها بعد الثورة. لقد كان المنتجون الكبار للمعادن الفرنسية هم الذين مارسوا الضغط على فرنسا لإقراض السوفييت، إذ انهم رأوا الطلبيات تمر تحت أنوفهم .
المثال الثامن والذي وقع مؤخرا، بعد عشرة ايام من غزو العراق، سنة 2003، استدعى كاتب الدولة الامريكي المكلف بالخزانة زملاءه في المجموعة السابعة G7 من أجل إلغاء الديون التي تعاقد عليها صدام حسين، مستخدما حجة الديون الكريهة. إلا ان الولايات المتحدة الامريكية قدمت لهم الكثير في أواخر السبعينات و الثمانينات لشن الحرب ضد إيران .في أكتوبر 2004 ، تم إلغاء 80% من ديون العراق . هذا يدل على صحة حجة القانون الدولي .
الديون تظهر أيضا على أنها قيود، والتي تمنع أي بديل …
نعم، هذا يعني أن إلغاء الديون الغير شرعية شرط أساسي لتحرير الموارد، لتنفيذ سياسة التحول الايكولوجي. ولكن أيضا هذا غير كاف ! فرفض الديون وعدم تحقيق سياسات أخرى تتعلق بالأبناك والمال و السياسة الضريبية و أولويات الاستثمار و الديمقراطية… ستكون بداية جديدة لدورة المديونية. يجب أن يكون الرفض جزء من خطة شاملة.
ترجمة : ليلة أجبرا