حاولنا في الفصول السابقة، أن نعرض بعض العناصر التي تساعد على فهم رهانات ومخاطر اتفاقيات التبادل الحر ،مركزين على تلك التي تربط بين المغرب والاتحاد الأوروبي ،و التي يجري التفاوض بشأنها حاليا.
لم يكن باستطاعتنا ملامسة جل القضايا التي اثارتها هذه الاتفاقيات، فهي ليست مجرد اتفاقيات تجارية عادية، بل تشمل جميع الأنشطة الاقتصادية وتؤثر على التشريعات وتمس مجالات بعيدة كل البعد عن المجال التجاري . وتعتبر كل تقنين حاجزا أمام التجارة. هاته الاتفاقيات هي مرتكزات حقيقية لفرض كل الإصلاحات التي تمكن من فتح البلدان “الشريكة” لشهية المال والتجارة الدولية. كما تهدف إلى تفكيك جميع القوانين التي تحد من حرية حركة رؤوس الأموال والسلع وأرباح الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات وتقييد تنقل الأشخاص مما يضعفهم في سوق الشغل.
لا غرابة سعيهم الدائم الذهاب بعيدا في هذا الانفتاح دون تقييم جدي لتأثير الاتفاقات السابقة. و لا غرابة أن يحدث كل هدا في جلسات مغلقة لم تقصى منها الشعوب فحسب ، ولكن أيضا ممثلوها (أو أولئك الذين من المفترض أن يكونوا كذلك) ووسائل الإعلام، في حين يتم تسليط الضوء على اللوبيات وتنظيمات رجال الاعمال والبنوك. ولا غرابة أيضا أن ترافق المحادثات عروض مالية في شكل منح أو قروض من شأنها إغراء المفاوضين بعروضها السخية على المدى القصير، و في نفس الوقت تمكن من ارساء آليات لنهب موارد دول الجنوب واستغلال يدها العاملة ،وهي وسائل ضغط لرفع الاعتراضات المحتملة .بالطبع سيتم استرداد تلك الأموال مئات الأضعاف من جانب المقرضين والمانحين.
ولهذا، فإن المعركة الأولى هي معركة الديمقراطية والشفافية والنقاش العام. ويحق للصحافة والبرلمانيين وعلى العموم الشعوب أن تطلع على شروط التفاوض والمشروع الأصلي وصلاحيات المفاوضين، والنقاط التي تتعثر حولها المفاوضات وتطوراتها. تحل الشركات والبنوك محل الشعوب والدول بشكل متزايد في اتخاذ القرارات نيابة عنها. لكن يحق لهذه الأخيرة أن تطلب كشف الحساب من المفاوضين، وأن تطالب بإجراء استفتاء عن أي قضية تخصها بشكل وثيق. الإرادة الشعبية يجب أن تتشكل وتعبر عن نفسها.
المعركة الثانية هي معركة السيادة. في الواقع يجب رفض كل الاتفاقات التي يتم اعدادها من قبل خبراء الاتحاد الأوروبي وتتم مناقشتها دون إعداد مسبق وفي غياب دراسات الاثار. إن المقاربة الكامنة وراء هذه المفاوضات هي مقاربة استعمارية تماما وهذه الاتفاقيات غير متوازنة لا من حيث الشكل ولا المضمون. وهي لا تعبر عن اي اتفاقات متبادلة.
فحجم الشركاء من ناحية غير متوازن تماما وكذلك الوزن الاقتصادي لكل منهما. ويجب قراءة نصوص اتفاقيات الشراكة الأوروبية-المغربية وملاحظة كيف يتناول الاتحاد الأوروبي دراسة شريكه من النواحي الديموغرافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويصل بحله السحري لمساعدته على الخروج من “تأخره”: الدخول في المنافسة الدولية. المسألة إذ أن المغرب لا يقوم بدراسة الوضع في الاتحاد الأوروبي وكيف تم الزج بمواطنيه في أزمة مصطنعة أنتجتها ولكن لا توجد معاملة بالمثل في هذه الحمّى المالية واجبارهم بسداد ما تم اقتراضه نيابة عنهم لإنقاذ البنوك من خلال تدابير التقشف التي لا تمس البتة الأغنياء وكيف ثم شل النمو ينما استمرت البطالة في التزايد. ليس لدى المغرب ما يقول لشقيقه الأوروبي الكبير، وهو في غنى عن نصائحه، لمساعدته على تجاوز أزمته. بل هو مدعو فقط إلى ملائمة قوانينه وأنظمته مع “المكتسبات الأوروبية”!
وإذا وقع المغرب على هذه الاتفاقيات؟، فقد رهن سيادته كليا.
من حيث القوانين والتشريعات. هو مطالب بمواصلة ملائمة قوانينه وتشريعاته تدريجيا كما هي في أوروبا–هاته الاخيرة التي وجب التذكير بأنها ستواجه نفس الشيء بالتأكيد مع الولايات المتحدة إذا ما تم التوقيع على معاهدة الأطلسي.
فيما يتعلق بالصناعة. بما أن الاتجاه الذي اتخذه الاقتصاد المغربي هو المناطق الحرة، والمناولة للصناعات الأوروبية التي ستعيد تصدير كل من الإنتاج والأرباح ولن تترك للمغرب إلا تكلفة تجهيز المناطق الحرة ،والبنية التحتية للنقل ،وبيع قوتها العاملة بأثمان بخسة. سيتم تعزيز هذا التوجه في الاتفاقيات الجديدة، لأنه دخل بالفعل حيز التنفيذ منذ توقيع أولى اتفاقيات الشراكة الأورو-متوسطية.
فيما يتعلق بالفلاحة، تم تقوية التوجه نحو الزراعة التصديرية وتركيز كل الجهد على الاستغلاليات التصديرية الكبرى التي تنتج للأسواق الخارجية، بينما يستمر المغرب في استيراد كميات هائلة على نحو متزايد لإطعام سكانه. إن التبعية الغذائية، تجعلنا تحت رحمة تقلبات الأسعار في الأسواق الدولية ،سواء بالنسبة لما نستهلكه أو لما نصدره. نتحمل تأثيراتها دون القدرة على التأثير فيها.
فيما يتعلق بالصحة، ستتسبب الحماية الممنوحة حول براءة الاختراع بشأن الأدوية في ارتفاع أسعار هذه الأخيرة وتأخر الوصول إلى الأدوية الجنيسة.
حياتنا اليومية تتوقف على نتائجها.
في الواقع ،نموذج التنمية هدا سيعمق التفاوتات في البلد ، سواء على المستوى الاقتصادي أو النقدي ،وبين الطبقات الاجتماعية وبين المناطق. وسيعزز تسليع وتفكيك الخدمات العمومية، مما ينتج عنه حرمان الفقراء من الاستفادة من الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والنقل، ويكرس عدم المساواة.
ما انفكت نماذج الإنتاج والاستهلاك تبتعد شيئا فشيئا عن الاحتياجات الحقيقية للسكان وتقاليدهم. لقد تم إدخال الكائنات المعدلة وراثيا خلسة على الأقل من خلال تغذية الدواجن وهي الآن جزء من غذائنا اليومي. فما هو تأثيرها على صحة المغاربة؟
ماذا عن المجزرة التي ترتكب باسم الشراكة الأورو متوسطية على حدودنا مع أوروبا وفي البحر الأبيض المتوسط؟ هل سنلتزم الصمت ونبقى متواطئين في هذه الجرائم؟
كان بالإمكان أن نضاعف الموضوعات ونتناول قضايا المناخ والبيئة، والحديث عن المعايير الاجتماعية والصحية وكشف الرهانات وراء فتح الصفقات العمومية أمام الشركات الأجنبية … بقي عمل كبير ينبغي القيام به لنشرح بالتفصيل تأثير اتفاقيات التبادل الحر السابقة والمستقبلية على حياتنا اليومية وحياة أطفالنا.
دق ناقوس الخطر
سيتطلب منا الاشتغال حول التبادل الحر المزيد من الوقت والجهد، ولكن أردنا من خلال العمل المقدم في هاته الدراسة، دق ناقوس الخطر ،لأن قضية التبادل الحر تهمنا جميعا. والضرورة تحتم علينا الخروج من الصمت، انتزاع واحتلال كل الفضاءات التي تمكننا جميعا كمغاربة ومغربيات، من أن نجعل أصواتنا تسمع ،ونفرض وقف المفاوضات ،ومراجعة العديد من بنود الاتفاقيات السابقة التي تعرض اقتصادنا للخطر، وترتهن وصول سكاننا إلى الحقوق الأساسية ،وتعرض للخطر حياة الأشخاص الذين يلجون المغرب ،يلتمسون الاستقبال او اللجوء أو الحماية من الخطر.
لن ندخر أي جهد للتوضيح، وتوعية المواطنين، ومساءلة السلطات، والعمل مع جميع المنظمات والفاعلين والباحثين الذين يمكن أن يساهموا في إعداد تعبئة مواطنية تكون في مستوى التحديات.
لقد نجحت شعوب أمريكا اللاتينية في التصدي للمشروع الأميركي بإنشاء منطقة للتبادل الحر بين الأمريكيتين. كما تزداد التعبئة في أوروبا قوة ضد معاهدة الأطلسي. يجب علينا نحن المغاربة وشعوب الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، أن نهزم الاتفاقيات الاستعمارية التي تريد أوروبا أن تفرضها علينا بالتواطؤ مع حكوماتنا وبعض القطاعات المصدرة، التي ستكون هي المستفيدة منها.
ملاحظة :
النص أعلاه هو خاتمة كتاب اتفاقات التبادل الحر اتفاقيات استعمارية ضد الشعوب.