الاقتصاد السياسي للخضراوات في مصر
هل يصح أن تكترث دولة تبني أكبر مسجد في تاريخ مصر وأعلى برج في أفريقيا بارتفاع تكلفة صينية البطاطس أو طبق السلاطة الخضراء؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة: لا.. لكن النظرة الفاحصة للأمور تقودنا للإجابة بنعم.
في نوفمبر الماضي علق الرئيس عبد الفتاح السيسي على شكاوى الناس من ارتفاع أسعار الخضراوات، وسأل جمهور مستمعيه: «عايزين تبنوا بلادكم وتبقوا دولة ذات قيمة ولا هندور على البطاطس؟»
في الواقع لم يكن أرباب الأسر هم فقط المنزعجون من ارتفاع الأسعار، ولكن أيضا مجتمع الأعمال الذي يفترض أن يتولى مسؤولية «بناء البلد»، في دولة تمنح القطاع الخاص دورًا رياديًا في التنمية.
لكي نفهم سبب انزعاج مجتمع الأعمال من الأسعار، علينا أن نعود للوراء قليلًا، بعد تعويم الجنيه (نوفمبر 2016) كان صندوق النقد يتوقع آثارًا تضخمية محدودة للتعويم، ولكن تقديرات خبراء المؤسسة الدولية رفيعة الشأن كانت خائبة وصعد التضخم لأعلى مستوى منذ الثمانينات.
وبالتزامن مع تعويم العملة ضغط الصندوق على البنك المركزي لزيادة أسعار الفائدة، لاحتواء التضخم المتوقع، إعمالا للقاعدة الكلاسيكية في السياسات النقدية التي تقول إن رفع الفائدة على الودائع يشجع الناس على الادخار، ومن ثم يقلل من اتجاههم للإنفاق، وبذلك يقل الطلب على المنتجات فتتوقف أسعارها عن الزيادة بوتيرة سريعة.
وتوالت الأزمات في تلك الفترة العصيبة، أقصد تحديدًا الأشهر الأولى من 2017، فقد قاد الانخفاض العنيف للجنيه إلى زيادة أسعار المنتجات المستوردة، ورفع من تكاليف الوقود المستورد فارتفعت فاتورة الدعم بقوة، ووجدت الدولة نفسها ملزمة بزيادات جديدة كبيرة في الفائدة وسط هذه الأجواء من الغلاء.
ووصلت الزيادات التي أجراها البنك المركزي في أسعار الفائدة بعد تعويم الجنيه إلى 7%، وهي قفزة كبيرة أزعجت مجتمع الأعمال لأنها رفعت تكلفة قروض البنوك. وعبر محمد السويدي، الذي يرأس أكبر ائتلاف في البرلمان وأحد الداعمين لسياسات الرئيس، عن انزعاجه من زيادة الفائدة في بيان أصدره بصفته رئيسًا لاتحاد الصناعات، قائلًا إنها «تحد من قدرة الصناعة على التوسع الأفقي أو الرأسي، ومن القدرة على التطوير».
لكن الجميع كان مطمئنًا على أي حال إلى أن وتيرة التضخم ستتجه للهدوء-عن المعدلات القياسية التي سجلتها من قبل- بنهاية 2017، وذلك مع استيعاب الأسواق لصدمة التعويم، وهو ما حدث بالفعل.
واستغل البنك المركزي هذه الفرصة وبدأ في تخفيض الفائدة تدريجيًا، خلال شهري فبراير ومارس 2018، لكنه توقف بعد ذلك ولم تنخفض الفائدة بأكثر من 2% خلال العام الماضي، مع عودة معدل زيادة الأسعار للارتفاع.
هذا الخفض كان محدودًا قياسًا بالزيادات التي جرت (7%)، وظلت تكاليف الإقراض مرتفعة مقارنة بالوضع قبل التعويم، لذا ترقب مجتمع الأعمال بعض الهدوء في أسعار السلع التي تؤثر في الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، على أمل أن يتيح ذلك للمركزي أن ينزل بالفائدة أكثر، لكن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن، وبنهاية العام الماضي ظهرت ضغوط تضخمية في الأفق، وكانت الخضراوات هي السبب وراءها.
ارتفعت أسعار البطاطس والطماطم بشكل مفاجئ خلال النصف الثاني من العام الماضي، وهي الظاهرة التي علق عليها السيسي في الخطاب الذي أشرنا له، وأثرت بشكل ملموس على معدل التضخم نظرًا لثقل وزن سلة الأغذية في هذا المؤشر.
فقد ارتفع معدل التضخم في نوفمبر إلى 15.6%، وأرجع جهاز التعبئة والإحصاء ذلك بشكل رئيسي لأسعار الخضراوات، وانخفض التضخم في ديسمبر إلى 11.1%، ثم عاد وارتفع في يناير إلى 12.2% والسبب كان الخضراوات أيضًا.
استطاع المركزي أن ينزل بالفائدة قليلا هذا الشهر بفضل تراجع التضخم في ديسمبر الذي جعل إجمالي تضخم الربع الرابع متفقًا مع المستوى المستهدف للتضخم، لكن ظلت حصيلة التخفيضات 3% في مقابل الـ 7% التي تم رفعها بعد التعويم.
استمرار ارتفاع الفائدة جعل مجتمع الأعمال في حالة من عدم الرضا، بالرغم من أن خطوة الخفض الأخيرة كانت مفاجئة وخارج توقعات المحللين، وهو الوضع الذي يجعل طرق كل السبل المؤدية لخفض وتيرة الأسعار أمرًا حيويًا لتمهيد الطريق أمام خفض الفائدة وبالتالي توفير التمويل للمشروعات، من هنا تظهر العلاقة واضحة بين تكلفة «صينية البطاطس» وقضية التنمية في مصر.
كيف تواجه الدولة إذن معضلة أسعار الخضراوات؟ أحد الطرق التي سلكتها الحكومة كانت الطريقة الكلاسيكية من خلال الهجوم على التجار الذين وصفتهم بالمحتكرين وإجبارهم على طرح سلعهم في السوق، لكن الواقع أن المشكلة أعمق من ذلك، وأكثر ارتباطًا بسياسات الدولة الزراعية.
هناك عوامل وراء زيادة الأسعار يفترض أن تكون مؤقتة، مثل تأثر محصول الطماطم بتقاوي مستوردة من الخارج تحمل فيروسًا أضر بالمحصول، وهي مشكلة يفترض أن تكون الدولة سيطرت عليها.
لكن توجد مشكلة أخرى مستمرة معنا، وهي اعتمادنا المكثف على استيراد التقاوي من الخارج، ما يجعل أسعار الغذاء في مصر مرهونة بأي تغيرات تحدث في الأسواق المصدرة للتقاوي، مثل ما جرى لأسعار البطاطس العام الماضي بسبب نقص تدفقات صادرات التقاوي من أوروبا لأسباب تتعلق بالأسواق الداخلية هناك.
كما أن الاعتماد القوي على استيراد التقاوي يجعل أسعار الأغذية المزروعة في مصر عرضة للزيادة في حالات ضعف العملة، مثلما جرى بعد التعويم، ما الذي أوصلنا إذن لهذه الحالة من الاعتمادية على الخارج؟ لم يكن الأمر اعتباطيًا بل تم الترتيب له على مدار عقود طويلة.
القصة باختصار أن الفلاحين كانوا يعتمدون على البذور المستخلصة من محاصيلهم في زراعة محاصيل جديدة، كانت عملية بسيطة ولا تكلفهم أي شيء، وبمثابة ثقافة تتوراثها أجيال من المزارعين، حيث يجد المزارع الابن والده يحتفظ في علب من الصفيح ببذور أصناف اعتاد المصريون على أن يتغذوا عليها، ويعيد الابن إحيائها من جديد بمجهوده الفلاحي، وهي العملية التي يطلق عليها خبراء الزراعة «الإكثار».
ومع دخول الهندسة الوراثية، توصلت الشركات الكبرى لتكنولوجيا تمكنها من إنتاج بذور «عقيمة»، إذا وضعها الفلاح في الأرض تنتج حاصلات ولكن لموسم زراعي واحد فقط، فإذا استخلص بذورًا من المحاصيل المنتَجة وحاول زراعتها مرة أخرى لا تخرج بإنتاج جديد، أو بتعبير خبراء الزراعة فإن هذه البذور المهندسة وراثيًا تنتج إنتاجًا «خضريًا» وليس «ثمريًا».
لماذا اجتهد العقل البشري في الوصول لطريقة تصيب البذور بـ «العقم»؟ كان الغرض من وراء ذلك هو جعل ملايين الفلاحين في شتى بقاع العالم بمثابة زبائن للشركات الكبرى، تقاسمهم في أرباح محاصيلهم، وكانت حقوق الملكية الفكرية هي أداتها في ذلك.
بدأ الطريق في فرض حقوق الملكية الفكرية على البذور منذ السبعينات، تحديدًا 1978،من خلال اتفاقية حماية الأصناف النباتية الجديدة المعروفة اختصارًا بـ «الأوبوف»، والتي كانت معنية بحماية حق الشركات التي تسجل ملكيتها الفكرية لبذور معينة في حماية هذه الملكية وعدم متاجرة شركة أخرى في هذه البذور.
وتطور نشاط اتحاد «الأوبوف» لمنتجي البذور تدريجيًا وصار مهيمنًا على أسواق الزراعة العالمية، وبدأت مصر تندمج في هذا السوق تدريجيًا خلال الثمانينات والتسعينات حتى صدر في 2002 أول قانون مصري لحماية الأصناف النباتية، وكان الالتحاق باتفاقية الشراكة الأوروبية أحد أوراق الضغط التي دفعت مصر للدخول في هذا المسار، وفقًا لرواية عبد المولى إسماعيل، الباحث الحقوقي في مجالي البيئة والزراعة، الذي زرته في مكتبه قبل أيام لكي أسمع منه قصة سيطرة شركات الدولية على سوق الزراعة المصرية.
ويقول إسماعيل إن مصر أصدرت قرارات وزارية عدة خلال الثمانينات والتسعينات تسمح بتداول البذور «العقيمة» المستوردة، وبدأت تقنن هذا النشاط في قانون عام 2002 الذي وضع قائمة بعشرين صنفًا زراعيًا سُمح بتداول بذورهم المهندسة وراثيًا، وكانت الخضراوات من أبرز الأصناف في هذه القائمة.
وعملت مكاتب قانونية محلية، وفقًا لرواية إسماعيل، على تسجيل حقوق الملكية الفكرية لمنتجات اعتاد الفلاحون على زراعتها في مصر لصالح شركات بذور عالمية، بحيث يتم إنتاج أجيال جديدة منها مهندسة وراثيًا.
ومع بدء طرح الشركات الدولية لبذورها العقيمة في مصر، اتجهت لإغراء الفلاحين باستهلاكها من خلال تقديمها بتكلفة بسيطة وتحت دعوى أنها تزيد من الإنتاجية، وهو أمر صحيح ولكن ليس في صالح الفلاحين على المدى الطويل، لأن قدرة الأرض على زيادة الإنتاج لها سقف بينما زيادة أسعار البذور لم يكن لها سقف، هذا بجانب أن المنتجات المهندسة وراثيًا كانت في كثير من الأحوال أقل جودة من من حيث القيمة الغذائية مقارنة بالمنتجات التقليدية، كما يضيف إسماعيل.
وخلال السنوات التالية اتسعت القائمة الحكومية التي تسمح بتداول البذور العقيمة حتى وصلت إلى 100 صنف في 2015، تغطي معظم المنتجات الزراعية، وفي الوقت نفسه اعتاد المزارعون على البذور الجديدة ونسوا تقاليدهم الزراعية القديمة حتى أصبحوا أسرى للشركات الكبرى.
ونتيجة ذلك، كما يقول إسماعيل، إن الاعتماد في زراعة منتجات مثل البطاطس والطماطم يعتمد بالكامل على بذور تابعة للشركات الأجنبية، ويضرب أمثلة على زيادات في أسعار أنواع من بذور الطماطم، بأحد الأنواع الذي زاد من متوسط 900 جنيه بين 2011 – 2014 إلى 2000 جنيه في 2017،للفدان الواحد.
أين الدولة من كل هذا؟ يقول إسماعيل إن وزارة الزراعة لا تزال تقوم بدور المنتج للبذور ولكن في مجالات محدودة، ويظهر الفارق في تكلفة البذور بين الدولة والقطاع الخاص عند المقارنة بين تكلفة الشكارة الحكومية من بذور الذرة مثلا (وزنها 5 كيلوجرامات) والتي يصل سعرها إلى 50 جنيهًا وبين شكارة القطاع الخاص التي تصل إلى 300 جنيه.
لكن المؤسف أن الدولة لا تضخ استثمارات كافية في مركز البحوث الزراعية، وأن الجانب النشط فقط في مجال البحوث الزراعية التابعة للدولة هو مركز بحوث الهندسة الوراثية، والذي يدخل في شراكات بحثية مع الشركات الدولية لإنتاج البذور، ويحظر عليه تداول البذور التي ينتجها تحت هذه الشراكات خارج شروط الشركات الدولية، كما يروي إسماعيل.
هذا هو أحد ملامح تأثير السياسات النيوليبرالية على أسعار الغذاء في مصر، ومن الممكن أن نضيف له الضغوط التي يتعرض لها المزارعين مع زيادة تكاليف مستلزمات الإنتاج، وتمسك الدولة بزيادة أسعار الوقود على الفلاحين وعدم منحهم أي امتياز خاص يعفيهم من هذه التكلفة الإضافية، من خلال آلية مثل الكروت الذكية التي كانت تعتزم تطبيقها ثم تراجعت عنها.
إن سياسات مثل تلك التي تم تطبيقها في مجال التقاوي، تم الإعداد والترتيب لها على مدار عقود، وهي التي ترفع تكاليف حياتنا بشكل جنوني، فهي تجعل أسعار الغذاء مرتبطة بتحولات العملة وأسواق البذور الدولية، وفي نفس الوقت تؤثر على مسار التنمية، إذ تساهم في زيادة التضخم وتدفع المركزي لرفع الفائدة ومن ثم تمنع منتج صناعي من الحصول على قرض للتوسع في إنتاجه أو تدفعه لتأجيل قراره الاستثماري، بما يضيع على مواطنين فرص عمل أو زيادة في الدخل.
بقلم/ محمد جاد