احتجاجات السودان أي آفاق لتغيير منشود؟
مقدمة
شهد السّودان، عبر تاريخه، انتصار ثورتين، الأولى عام 1964 والثّانية عام 1986، وعاش تجارب تحوّل ديمقراطي لم تكتمل. وفي ظل حكم البشير الممتد لـ 30 عامًا، شهد السودان العديد من الهبّات الشعبية رفضًا لسياساته الاقتصادية أو رفضًا لبعض حروبه المسلحة على بعض الأقاليم والتمرّدات الشعبية فيها سواءً في الجنوب أو في دارفور. وتزامنًا مع موجة الربيع العربي، انطلقت تظاهرات طلابية محدودة في 30 يناير/كانون الثاني 2011 احتجاجًا على الفساد وغلاء الأسعار وغموض مستقبل البلاد بعد تقسيمها، وكانت التظاهرات في جامعة الخرطوم وجامعة أم درمان. غير أنّ التعامل الأمني مع تلك التّظاهرات كان عنيفًا، إذ تمّ إلقاء القبض على عشرات الطلاب وإيقاف العديد من الصحافيين الأجانب ومراسلي القنوات التلفزيونية لمنعهم من تغطية تلك الاحتجاجات، وقبلها حذّرت الشرطة السودانية من التظاهر من أجل التغيير الشامل، وإسقاط النظام بطرق غير قانونية في حين وجّه حزب المؤتمر الوطني الحاكم الاتهام لحزب المؤتمر الشعبي وحركات اليسار بالوقوف خلف دعوة التظاهر التي انتشرت عبر الإنترنت.1
وكانت هناك أيضًا احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013 التي سقط خلالها نحو 200 قتيل بحسب منظمات حقوقية2، وأفضت إلى دعوة الرئيس البشير مطلع عام 2014 لحوار وطني لم يُسفر عن نتائج إيجابية، إذ رفض النظام تقديم أي تنازلات حقيقية في جلسات الحوار، أو حتى الاستجابة لمطلب المعارضة بتأجيل انتخابات 2015، إلى حين التوافق على دستور جديد وإجراءات انتخابية نزيهة، بل إن بعض أهم المشاركين في الحوار تم اعتقالهم، كما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، وقاطعت أحزاب المعارضة والحركات المسلّحة الانتخابات الرئاسية، بل وفي أوجّ أزمة السيولة ونقص السلع الأساسية قبيل عيد الأضحى في عام 2018 قام الحزب الحاكم بتعديل نظامه الأساسي ليسمح للبشير بالترشّح لولاية جديدة في 2020.3 وفي 4 ديسمبر/ كانون الأول الماضي أعلن رئيس البرلمان أنه تلقى خطابًا موقّعًا من أغلبية النواب (294 نائبًا من بين 481) يؤيّد تعديلاً يمدّد الحد الأقصى لفترات الرئاسة.
اندلعت موجة الاحتجاجات الحالية في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2018، اعتراضًا على موجة التضخّم العالية ورفع الحكومة لسعر الخبز ثلاثة أضعاف وأزمة شحّ الوقود وتدني الرواتب الحكومية، وكذلك احتجاجًا على التعديلات الدستورية التي تسمح للبشير الترشّح لانتخابات العام 2020 والبقاء في السلطة.
عقب كل موجةٍ احتجاجية ينطلق النظام السوداني للترويج لنظرية المؤامرة، ولكن هل يحتاج نظامٌ خاض حروبًا ضد معظم أقاليم بلاده إلى مؤامرة وهو الذي أفقد الميزانية 90% من مواردها منذ انفصال الجنوب وفقًا للبشير نفسه؟4 وفي كل مرة كانت الانتفاضة تنطلق من الخرطوم، لكن الانتفاضة هذه المرة انطلقت من مدينة القضارف في الشرق ودنقلا في الشمال وعطبرة وانتشرت في أكثر من 14 ولاية وصولاً إلى الخرطوم لتتّسع إلى مختلف مدن وقرى السودان وتتزايد وتيرتها. ورغم إعلان الأجهزة الأمنية عن إطلاق سراح جميع المعتقلين، إلا أن أحزابًا نفت أن يكون ذلك قد حدث بالفعل، وخرج موكب الزحف الأكبر الذي دعا له “تجمّع المهنيين السودانيين” في 31 يناير/ كانون الثاني 2019 في العديد من الولايات.
كما أنه ورغم اعتراف البشير في لقاءٍ مع الصحفيين بأن قانون النظام العام والأوضاع الاقتصادية، أثارت الغضب في صفوف الشباب الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية على الأوضاع المعيشية، ووعده بإطلاق سراح جميع الصحفيين الذين اعتقلوا منذ اندلاع الاحتجاجات5، إلا أن تجمّع المهنيين السودانيين نظّم موكبًا في اليوم التالي تضامنًا مع ضحايا الاعتقال والتعذيب فقد سبق وأعلن مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني قرارًا بإطلاق سراح جميع المعتقلين خلال التظاهرات المناهضة للحكومة، غير أن أحزابًا كثيرةً أعلنت أن عشرات من أعضائها ما زالوا في سجون النظام، بل وجرت موجة اعتقالات جديدة في صفوف قيادات الأحزاب.6
إن التماهي ما بين الحزب الحاكم وجهاز الدولة مثل السمة الأساسية لحكم البشير، حيث أن حكومة الإنقاذ مكثت كل هذه السنوات وفشل معارضوها في إسقاطها، لأنها، بحس البعض، نجحت وبامتياز في خلق شبكات من المصالح مرتبطة جميعها بأجهزة الدولة، وهو ما يطلق عليه ريعُ الدولة، هذه الشبكات أصبحت أركانَ الإنقاذ، لكن حالة السيولة السياسية الحالية يمكن أن تغري أية مجموعة تمتلك قدرًا كافيًا من القوّة يمكّنها من الهيمنة على مجموعة أخرى، لكن يبقى السؤال مفتوحًا حول من الذي يمتلك القدر الكافي من القوّة التي ستطيح بالتوازن الهش والسيولة الماثلة الآن؟7
انقسام القوى المحلية حول الاحتجاجات
انطلقت الاحتجاجات السودانية في 19 ديسمبر/ كانون الأول تنديدًا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي واحتجاجًا على رفع أسعار الخبز ومعدّل التخم المرتفع الذي بلغ 66.8% في أغسطس/آب 20188. وآلت الاحتجاجات إلى مطالبة “تجمّع المهنيين السودانيين” بتنحي الرئيس عمر البشير وحكومته. ولم تكن للأحزاب اليد العليا في انطلاق الاحتجاجات وإنما بدأت القوى السياسية التي تريد اللّحاق بركب الشارع في تحديد مواقفها تباعًا. وكان أوّل الأحزاب التي أبدت موقفًا مؤيّدًا للاحتجاجات “الجبهة الوطنية للتغيير وحزب الأمة“ عبر مذكّرة تطالب بتنحي الرئيس البشير، وتشكيل مجلس سيادة انتقالي، لأنهما جزء من الأطراف المشاركة في الحوار الوطني وحكومة الوفاق.
أما “حزب المؤتمر الشعبي“، الذي أسّسه الراحل حسن الترابي، فرغم أنه أيّد التظاهر السلمي وطلب فتح تحقيق في مقتل المحتجين، فإنّ مواقفه تبدو متماهية مع غريمه السابق “المؤتمر الوطني” الحاكم، وهو ما دعا مجموعات شبابية داخله للدفع بمذكّرة إلى قيادة الحزب تطالب بالانسحاب من الحكومة.
كما يؤيد الاحتجاجات “تحالفُ نداء السودان“، الذي يضم “حزب الأمة القومي” المعارض، و”حركة العدل والمساواة” و”حزب المؤتمر السوداني” و”حركة تحرير السودان” وعددًا آخر من الأحزاب، كما يضم تحالف قوى الإجماع الوطني، وفي مقدمتها “الحزب الشيوعي السوداني” و”حزب البعث” و”التحالف السوداني” وأحزاب أخرى، كما تحاول الجبهة الوطنية للتغيير، التي تشكّلت في الأسابيع الماضية، إيجاد موطئ قدم لها في صف المعارضة.9
وانشق مؤخرًا عن التحالف الحاكم “حزبُ الأمة الفيدرالي“، وهو أحد الأحزاب التي انشقّت عن حزب الأمة القومي، بزعامة الصادق المهدي. ودخل، منذ تأسيسه في العام 2004، في شراكة سياسية مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مُنح بموجبها عددًا من المناصب الوزارية في المركز والولايات، وفي آخر حكومةٍ شكّلها معتز موسى، حصل على منصب وزير الثقافة والتراث، و3 وزراء ولائيين، و8 نواب في البرلمان القومي و15 نائبًا في برلمانات الولايات.
“تجمّع المهنيين السودانيين” يقود الاحتجاجات
بعيدًا عن اللافتات الحزبية الضيّقة، يبدو أن “تجمّع المهنيين السودانيين” يعبّر بشكل كبير عن مطالب وتطلعات المتظاهرين السودانيين، وتُعدّ صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك هي التجمّع الأكبر للقوى المؤيّدة للحراك وهو يصوغ مطالب المتظاهرين ويحدّد أماكن الاحتجاج ويقدّم الدعم الطبي واللوجيستي لكافة التظاهرات ويوزع البيانات والمنشورات، ويقوم عبر لجانه بتوثيق حالات الإصابات والوفيّات بين المتظاهرين. دعا التجمّع لتنظيم تظاهرة حاشدة يوم 25 ديسمبر/كانون الأول هدفها الوصول للقصر الرئاسي لتسليم مذكّرة تطالب بتنحّي البشير، قوبلت التظاهرة بعنفٍ مفرط وتفرّقت، لكنّه ينظّم العديد من الفعاليات الاحتجاجية يوميًّا منذ ذلك الحين كان آخرها موكب الزحف الأكبر 31 يناير/ كانون الثاني. 10
تتنوّع القوى والحركات غير الحزبية المناوئة للبشير ما بين مظالم فئات مهنية واسعة كالأطباء والمعلمين والمهنيين وتنتشر تظاهرات طلابية ضدّه في العديد من الجامعات كما أطلق أساتذة جامعة الخرطوم مبادرة موقعة من أكثر من 530 أستاذًا تطالب بالانتقال السلمي للسلطة في السودان وتنحّي البشير وإقامة حكومة انتقالية.11
كما تأسست “حركة قرفنا“ في العام 2009، وهي تصف نفسها بأنها حركة مقاومة شعبية سلمية من أجل إسقاط حكم “المؤتمر الوطني” الحاكم، وقد كانت لها دعوات بمقاطعة الانتخابات في 2010 و2015 ولها دور في الاحتجاجات الشعبية والطلابية التي شهدتها الجامعات السودانية منذ انطلاق الحركة.12
المواقف الإقليمية والدولية من الاحتجاجات
استطاع البشير أن ينجو من موجة الربيع العربي، لكنّ نجاته لم تكن إنجازًا شخصيًّا له بقدر ما هي تخوّفات الشعوب من انتكاسات بعض دول الربيع العربي بعد العام 2013 وتحوّل بعضها مبكّرًا إلى صراعٍ مسلّحٍ كما في اليمن وسوريا، وهو الأمر الذي يستخدمه البشير ورموز نظامه للتخويف من الانجرار إلى المصير السوري أو الليبي أو اليمني وأن بقاء نظامه هو الضمانة لهذا الاستقرار.
يحاجج البعض بالقول إن معظم التحليلات بشأن الأوضاع في السودان، والتي تشير إلى احتمالية سقوط البشير هذه المرة، تعكس رؤية قاصرة لأصحابها، كما أنّها أسيرة الأمنيات وتغلب عليها الأهواء، فالبشير باقٍ في السلطة لأبعد مدى زمني ممكن، هو لا يزال الطرف الأقوى في المعادلة الداخلية بتركيبتها المعقدة، ونجح في جعل كافة الخيوط بيده. في نفس الوقت، لا يمثّل العامل الخارجي ورقة ضغط كبيرة عليه، بعد نجاحه في اللعب على المتناقضات الإقليمية والدولية، فالنظرة إزاء السودان تغيرت مع تغير الاستراتيجية الأميركية والأوروبية في المنطقة التي أضحت تركّز على مواجهة كافة التّهديدات لمصالحها في المنطقة ولأمنها القومي، وهو ما يجعل السودان في قلب الأحداث وجزءًا مهمًّا في المعادلة الإقليمية والدولية، ومن ثم فإنّ استقراره مطلبٌ إقليميٌّ ودوليّ أكثر منه تحمل تكلفة تبعات سقوط البشير على المنطقة برمتها من سيناريوهات كارثية قد تواجهها، في سبيل البحث عن مكاسب زائفة باسم الديمقراطية، كما أن البشير قدّم تعهدات اقتصادية بتوفير حياة كريمة للمواطنين والالتزام بعدم رفع الدعم عن الدقيق والوقود مستقبلا وهو ما يعزّز سيناريو احتواء التظاهرات دون الاستجابة لمطلبها بالتغيير.13
بينما يرى آخرون أن الاحتجاجات هذه المرة أكثر انتشارًا وكثافةً واستمرارًا، والتحالف الحاكم أقل تماسكًا وأكثر انفراطًا، العامل الخارجي لا يمثل ضغطًا عليه لكنه ليس مساندًا قويًّا له. فعلاقة السودان مع الولايات المتحدة ظلّت متوترة معظم فترة حكم البشير، إذ أعلنت الولايات المتحدة حالة الطوارئ في السودان للمرة الأولى في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، ما سمح للرئيس بل كلينتون بفرض عقوبات اقتصادية على السودان بتهمة رعاية الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997. واستنادًا إلى ذلك الإعلان، أصدر الرئيس جورج بوش الأمر التنفيذي رقم 13400 بتاريخ 26 أبريل/ نيسان 2006، الذي يحظر التعامل في ممتلكات الأشخاص المتورطين في النزاع في إقليم دارفور. وعزّزت سياسات البشير هذا التوتر بما في ذلك وجود زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن في البلاد في التسعينيات وحملة عسكرية في منطقة دارفور غرب السودان وصفتها واشنطن بأنها إبادة جماعية، وعلى إثرها أحيل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية في 2005 والتي أصدرت أمرين بالقبض على البشير في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور في 2009 و201014. وظلّت هذه العقوبات الاقتصادية سارية ولم تتحسّن حتى وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، إذ تجري الولايات المتحدة تحسينًا بطيئًا لعلاقتها مع السودان بعد عقودٍ من التّوتّر، ففي 6 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قرر ترامب إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ 1997 ومع ذلك، فإن العقوبات الفردية التي فرضها بوش في 2006 لا تزال سارية.15 (العبارة ناقصة)
وبالنسبة للموقف الروسي، ورغم ضعف الأهمية النسبية للسودان عن نظيرتها في سوريا التي تحوي قاعدة طرطوس البحرية الروسية، إلا أن البشير يستعين ببعض الخبرات الأمنية الروسية في التصدي للاحتجاجات.16 وقد حاول البشير جذب مزيد من الدعم الروسي والإيراني لنظامه عبر زيارته سوريا كأول زعيم عربي يحاول أن يقود موجة التصالح مع النظام السوري بعد تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية.
لكن نظامًا يستعين بقوات أجنبية لمساعدته على مواجهة الاحتجاجات هو نظامٌ هش ويخشى من تصدّع تحالفه الحاكم، كما أن طلب التدخل الأجنبي في مثل هذه الحالات يقود القوى الاحتجاجية للتشكيك في وطنية النظام وكسب المزيد من التعاطف من قبل بعض أركانه، وبالتالي فإن هذه الأخبار عن التدخل الأمني الروسي قد تعزز موقف المحتجّين، بالإضافة إلى أن نظام البشير ليس لديه ما يدفعه لروسيا.
أما بالنسبة للصين، فالعلاقات التاريخية القوية بين الصين والسودان تتجاوز مرحلة حكم البشير لكن في عهده عرفت العلاقات ازدهارًا، إذ تحتل بكين موقعًا متميزًا كشريك تجاري واقتصادي للسودان. وتُعد شركات البترول الصينية والماليزية مساعدًا قويًّا للبشير في اكتشاف واستخراج وتصدير نفط الجنوب قبل انفصاله في تحدٍّ للولايات المتحدة والشركات الغربية، وتشير بعض التقارير إلى أن الصينيين من أبرز مورّدي السلاح للخرطوم، كما أن الصين أعفت مؤخرًا الخرطوم من ديونها الحكومية.17 لكن الصين تعاملت بحذر وبراغماتية شديدة مع موجة الربيع العربي فهي دائمًا ما تتعامل مع الرابح ولا تتدخّل في دعم الأنظمة وإنما تسعى للتأكيد على مصالحها الاقتصادية حتى في ظل الحروب كما هو الحال في استمرار تدفق استثماراتها النفطية لجنوب السودان رغم الحرب الأهلية الدائرة.
بالنسبة للمواقف الإقليمية، فمصر أقرب الدول للسودان داخلها قطاع رسمي وغير رسمي قوي يرى البشير امتداد لحركة الإخوان.18 كما أنّ مصر ليست لاعبًا مهمًّا في قضايا دول جوارها حاليًّا، وكذلك فإن ردّات فعل قوى الأمن بعنفٍ شديد على التظاهرات هي المحرّك لكثيرٍ من التظاهرات وهي التي تجعل دائرة معارضي بقاء البشير داخليًّا تتسع، ويكفي مطالعة الصحف حول أعداد المعتقلين ومشاهدة جنازات الشهداء جميع التظاهرات تطالب بإسقاط النظام، وحتى لو سعي لإيجاد تحالف إقليمي لإبقائه لا يمكن ضمان أن الإقليم مستعد لدفع كلفة بقاء البشير لا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا رغم ما يبدو من لعبه على كل الحبال.
من ناحية أخرى، بدا أن إعلان قطر مساندتها مبكرًا للبشير وتقديمها مليار دولار وديعة للتخفيف من الأزمة الاقتصادية، حجب عنه الدعم الإماراتي السعودي، إذ أنه طيلة الأزمة الخليجية كانت الدولتان تحسبانه على المحور القطري-التركي وتنظران إليه باعتباره ممثّلاً لتيار الإسلام السياسي الذي تعيد الدولتان بناء تحالفات المنطقة على أساس مواجهته وهو ما يجعل الموقف السعودي الإماراتي مترقبًا لتطورات المشهد السياسي الداخلي. وفي هذا الإطار فإن هناك سابقة لدعم قطر لنظام الرئيس مرسي في مصر، وهو الدعم الذي لم يبقه في مواجهة نظام مدعوم إماراتيًّا وسعوديًّا في ظل موجة احتجاجات محلية واسعة.
ومن ناحية أخرى، فإن التعويل على مساندة دول الخليج لإبقاء النظام في السودان لن ينتج صيغةً أكثر تفاؤلاً من الوضع في اليمن حيث تقود دول الخليج تحالفًا عسكريًّا للإبقاء على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي منذ عام 2015. ورغم إلقاء الحكومة اليمنية الشرعية بثقلها العسكري لم تستطع فرض سيطرتها على معظم مدن اليمن. ولعل انهماك دول الخليج في حرب اليمن وعدم توافقها حول حل للقضية اليمنية وتزايد النقد الدولي والأممي لها سواءً لتدميرها البنية التحتية اليمنية أو لتأزيمها للأوضاع الإنسانية، يعطي مؤشّرًا لعدم قدرتها على تقديم أكثر من الدعم الاقتصادي لنظام البشير، وهو الدعم الذي لم تلح بوادره في الأفق رغم مرور أكثر من شهر على اندلاع الاحتجاجات.
خاتمة
يمكن القول إن الداخل هو المحدّد الأقوى لتطورات الأوضاع في السودان. تتوقّف فعالية الدور الإقليمي في الإبقاء على البشير على عوامل ليست بيد البشير نفسه، إذ تقتضي توافقًا خليجيًّا حول دعمه بحزم مساعدات مالية قوية وهو ما يصعُب توقعه خصوصًا بعد الموقفين القطري والتركي منه، وفي ضوء عدم وجود بوادر لتجاوز الأزمة الخليجية وحلها بعد فشل كافة الجهود الكويتية والدولية لرأب الصدع الخليجي.
كما أن ردات فعل الأمن والنظام على التظاهرات تبدو محدّدًا قويًّا لبقائه أو سقوطه، إذ تشير تجربة الربيع العربي الماثلة في الأذهان أن ردات الفعل الأمنية العنيفة في وجه التظاهرات السلمية تولّد تضامنًا شعبيًّا أوسع، ما قد يخلق تخلخلات أوسع في التحالف الحاكم وبالتالي تعزيز فرصة التغيير، أو على النقيض تحويل التظاهرات السلمية الممتدة للطابع العنيف وتخلخل مواقف كافة الأطراف مما يؤدي إلى تغييرٍ غير سلسٍ للسلطة، كما حدث في حالات ليبيا وسوريا واليمن وهو سيناريو غاية في التعقيد في سياق قبلي مسلّح لم تتطور فيه الدولة إلى الحد الذي يجعل الأحزاب والتحالفات السياسية والتجمعات المدنية وسيطًا قويًّا للتفاوض مع مؤسسات الحكم، لكن هذا السيناريو يبدو مستبعدًا في ظل الدور القوي الذي يلعبه “تجمّع المهنيين السودانيين” كوسيطٍ ذي ظهير شعبي يمكن أن يلعب الدور الذي لعبه “الاتحاد التونسي للشغل” في الثورة التونسية.
وكذلك، إن قدرة القوى الجديدة المنظّمة للتظاهرات على الاستمرارية والتطور والتحول من الحراك الاحتجاجي إلى حركة اجتماعية قوية تستطيع بلورة الوعي الجمعي والشعور العام بالضيم في آليات جديدة ومبتكرة للاحتجاج قد تطيح بالبشير وتلعب دورًا قويًّا في ترتيبات ما بعده، في ظل انهيار التوزان بين تصاعد الاحتجاجات من جهة، وفاعلية إجراءات القمع التي يستخدمها النظام، حالة انسداد الأفق القائمة حاليًّا وعلى الرغم من أن الاحتجاجات جردت النظام مما تبقى له من شرعية، وأفقدته معظم قاعدة دعمه الجماهيري، إلا أنّ مصير هذه الاحتجاجات يبقى رهين استمرار كسر حاجز الخوف من المجهول وانضمام بعض أركان النظام للحراك.
الرابط الاصلي للمقال