كتاب جديد : مؤلف مغربي يكتب عن آثار النيوليبرالية على العمران والوضع الاجتماعي في مراكش

أجرت جمعية أطاك المغرب الحوار التالي مع الأستاذ والكاتب المغربي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية “خالد مدحي”، الذي أنجز أطروحة الدكتوراه حول مدينة مراكش وآثار النيوليبرالية على العمران والوضع الاجتماعي. كشف البحث الميداني الذي قام به المؤلف عن مدى الهشاشة الاجتماعية والفوارق الطبقية التي تخفيها الدعاية السياحية الرسمية.

ننشر الحوار التالي للتعريف بالمؤلف والكتاب، ومدى تقاطع مضمونه مع الخطاب المناهض للعولمة الرأسمالية، وستعمل جمعية أطاك المغرب على تقديم الكتاب للقراء فور توصلها بالنسخ العربية.

1.       الاستاذ خالد، المرجو تقديم نفسك للقارئ المغربي:

إسمي خالد مدحي ، من مواليد مدينة خنيفرة و أعيش حاليا بالولايات المتحدة الأمريكية، حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة إلينوي بشيكاغو وأعمل كباحث و أستاذ للعلوم السياسية و دراسات المدينة و دراسات  العولمة بأكاديمية المحمية الغربية بولاية أوهايو الأمريكية.

2.        ما هو الحافز أو الحوافز التي دفعتك للقيام بهذا البحث؟

بحكم نشأتي في مدينة صغيرة تفتقر إلى “جاذبية ” سياحية، كثيرًا ما كنت  أتصور مدينة سياحية كمراكش من خلال عبارات (نمطية) تكون أحياناً متناقضة: كمدينة حديثة وعالمية، كمكان لأنماط حياة وتقاليد مغربية أصيلة و كوجهة سياحية دولية. بدأ اهتمامي بمراكش عام 2004 عندما زرت المدينة رفقة زوجتي بغية الإنغماس في” التجربة السياحية” الفريدة التي تعد بها وكالات الأسفار العالمية زبناءها الأوروبيين و الأمريكيين. لكني كمغربي كان دافعي هو أن أُعرّف شريكة حياتي ببلدي الذي أحبه و أفتخر به. لكننا خلال زيارتنا، اصطدمنا بإزدواجية الواقع الإجتماعي المراكشي الذي يتضمن المال والسلطة من جهة ثم الفقر و التهميش من جهة أخرى.

على سبيل المثال، في إحدى المناسبات، تم منعنا من الدخول إلى فندق فاخر بحجة ارتدائنا لملابس لا تتناسق و رُقيَّ المكان. و في مناسبة أخرى، حذرني نادل مطعم، من منطلق تضامني، أن أتوخى الحذر من الشرطة السياحية بحكم مرافقتي لسائحة شقراء.

كنتيجة لسياسات التسويح (touristification) التي أُخضِعت لها مدينة مراكش خلال العقود الأخيرة، تواجه الطبقات المهيمَن عليها كل أشكال “الحكرة” الممنهجة: من تكاليف العيش المرتفعة إلى أسواق العمل و السكن غير المستقرة. ورغم ذلك يذكر المراكشيون بعضهم البعض أن “الحكرة” لاترجع  إلى دونيتهم بل إلى التصادم الملازم للطقوس والممارسات السياحية عندما تتحالف السلطة السياسة مع النخب الإقتصادية الساهرة على تحويل المدينة إلى مجال ترفيهي وآلة استهلاكية. في سياق ردود فعل الساكنة، اكتشفت أن للسخرية المراكشية روحاً مُقاوِمة لتلك “الحكرة” مما يجعل منها “ثورات بالغة الصغر” على حد قول جورج أورويل.

بعد زيارتنا تلك بسنوات، وجدت نفسي في مراكش مجددًا كباحث و أستاذ زائر بجامعة القاضي عياض، حينئذ عزمت على فهم علاقات و ديناميات القوة التي تحدد حاضر و مستقبل المدينة.

اكتشفت أن “الحكرة” لازالت قائمة و كذلك الثورات بالغة الصغر، لكن الأهم من ذلك، وجدت أن مراكش انتكست كمجال تتم فيه شتى أنواع الممارسات الإقصائية الناتجة عن السياسات النيوليبيرالية التي توجه المدينة نحو السوق العالمية. كل ذلك شكل حافزاً للقيام ببحث ميداني انبثق عنه كتابي المعنون:”إعادة الهيكلة الحضرية، القوة والرأسمالية في سياق المدينة السياحية: مراكش كميدان متنازع عليه” (من قبل روتلدج) شهر مايو 2019.

3. انطلاقا من البحث الذي قمت به بالمغرب حول  التحول العمراني بمدينة مراكش لنيل شهادة الدكتوراه،  ما مضمون و خلاصات بحثك الاساسية ؟

يركز الكتاب على عمليات الهيكلة و إعادة الهيكلة الحضرية و علاقات القوة و الإقتصاد السياسي لما يسمى في الدراسات الأنثروبولوجية ب “الأصالة السياحية” المزعومة في الأوساط النيوليبيرالية. من الناحية النظرية، يقترح الكتاب إطاراً تحليلياً شاملاً يسلط الضوء على قضايا الخطاب الإيديولوجي و نقد الكولونيالية و تسليع التراث و كذلك كل أشكال المناهَظة التي يمارسها سكان المدينة المهمشون.

يتمحور الكتاب إذن حول نمطين للقوة/السلطة رهينين الأحد منهما بالآخر، أي: السيطرة و المقاومة. ففي الجزء الأول من الكتاب، أحاجج أن الممارسات المكانية للدولة و الشركات، و التي تتم بغطاء من الشرعية في الخطابات المهيمنة، تعمل ليس فحسب على تشكيل و تجسيد المجتمع المراكشي ككل، بل تعمل كذلك على قيادة الأفراد و التأثير على ذاتيتهم. أما الجزء الثاني فيتطرق إلى الطرق التي من خلالها يتلقى، بل و يقاوم، سكان المدينة تلك الخطابات و الممارسات المهيمِنة.

نظرياً، يعتمد الكتاب على النقد الماركسي للإقتصاد السياسي الرأسمالي و على أعمال ميشيل فوكو المرتكزة حول نقد فنون الحكم أو “الحكمانية”    (gouvernementalité)  و السلطة الحيوية (bio-pouvoir) و السلوك المضاد (la contre-conduite) اعتمدت كذلك على تحليل پيير بورديو للرأسمال غير المالي و البنى الاجتماعية للاقتصادي. أكيد، هنالك أعمال متميزة لعلماء اجتماع و مؤرخين مغاربة و التي كان لها أثر على طريقة تعاملي مع الموضوع. أخص بالذكر أعمال الأساتذة عبد العزيز بلال و عبد الجليل أكرّام وپول پاسكون اللذين أرّخوا للتواجد الرأسمالي في المغرب و محمد السبتي و محمد الفايز اللذان يعتبران مرجعين أساسيين في كل ما يتعلق بمراكش ثم علي سيدجاري و محمد الظريف في مجال دراسات المدينة.

أمّا في مجال الدراسات المغربية في الأكاديمية الأنجلوفونية، فهنالك أبحاث دايفيد ماك-ميوراي (2001) حول تهريب البضائع و الهجرة في مدينة الناظور و إيميلي غوترايخ (2007) التي تناولت بالتحليل العلاقات المكانية بين اليهود و المسلمين في الملّاح المراكشي، ثم كتاب رايتشل نيوكوم (2010) الذي ناقشت فيه الواقع الإجتماعي لنساء مدينة فاس المُعوْلمة. فالعامل المشترك بين كل هذه الأبحاث (بما فيها كتابي) هو تطرقها لأسئلة الذاتية (subjectivité)  و المجالية (spatialité) و تبلور الهويات الاجتماعية في ظل العولمة النيوليبيرالية.

لقد أصدر مؤخراً صديقي الأستاذ كونراد بوغاريت كتاباً قيماً عام 2018 تطرق فيه للطابع “السياسي العميق” للمشاريع التجارية الكبرى بالرباط و الدارالبيضاء و التي تكرس ما سماه ب”السلطوية المعولمة” (Globalized Authoritarianism). أذكر هذا الكتاب بحكم التوافق المتواجد بينه و بين كتابي، فكلاهما يتعامل مع مواضيع ذات صلة معتمديْن على أدوات نظرية و منهجية قابلة للمقارنة. و رغم ذلك، في حين يرتكز كونراد على المشاريع الكبرى كمراكز التسوق و المشاريع السكنية و الفنادق و المارينات كجاهزيات سلطوية مستبدة  (Dispositifs autoritaires)، فإن كتابي يهتم بطيف أوسع من الممارسات المكانية للنخب المهيمِنة و كذلك مجموعة من الممارسات و المواقف المناهضة للساكنة. ببساطة، كل قارئ مهتم بموضوع العمران النيوليبيرالي سيجد كلا الكتابين مفيدين للغاية.

4.  كيف تحولت  مدينة مراكش  إلى مدينة للترفيه و آلة للاستهلاك؟

حاججت في الكتاب أن مدينة مراكش تعرضت لثلاث مسارات تاريخية كبرى للتحول:

– أولاً، عند بداية التغلغل الأوروبي في البلاد، عانت مراكش من عزلة جذرية عن سياقها الإقليمي و التاريخي و جُعِلت معتمدة بشكل كبير على الإقتصادات الأوروبية.

-ثانياً، عملت إدارة المستعمر على نقض النسيج الحضري المتواجد في المدينة من خلال فرض سياسات حضرية دخيلة عازمة على تحديث المدينة و المجتمع المراكشيين بأي ثمن. ثم من خلال سياسات شبيهة بالأبارتهايد قسّمت المدينة عرقياً و طبقيّاً.

– ثالثاً، خلال مرحلة ما بعد الإستقلال، عملت الدولة المغربية على استعادة الأصالة و المجد المفقودين للمدينة و ذلك بتسخير فضاءاتها و تاريخها للإستهلاك السياحي كأداة للنمو الإقتصادي.

كل هذه التحولات الكبرى مهّدت الطريق إلى مرحلة العولمة النيوليبرالية حيث أصبح تصور مستقبل للمدينة خارج القالب السياحي أمراً مستحيلاً. ثم أصبح الحديث عن “المدينة الحمراء” كمدينة سياحية قلباً و قالباً (essentiellement touristique) في الخطابات الرسمية، فمن يطلع مثلاً على الوثائق المؤسسة للخطط الحضرية و العمرانية (SDAU) يجد هذا الخطاب الإيديولوجي يتخلل التصور الرسمي لمستقبل المدينة.

5. يمكن لزائر هذه المدينة أن يلاحظ  مكانة الدعارة بمختلف اشكالها في مشهد المدينة، هل لديكم فكرة عما يجري في هذا المجال في سياق التحولات التي عرفتها المدينة؟

لم أتناول هذه الظاهرة بالتحديد تفاديا لعامل الإثارة المعتاد في بعض الأوساط، لكن أود الإشارة إلى أن ما سميتمونه بالدعارة (يفضل علماء الاجتماع عبارة “العمل في الحقل الجنسي” لجعل الظاهرة فئة تحليلية بعيدة عن نطاق الشجب الأخلاقي)، ظاهرة اجتماعية تنضم إلى ما يسمى بالاقتصاد غير الرسمي (économie informelle) و الذي يشكل مجموع الأنشطة المربحة الخارجة عن السيطرة الرسمية للدولة. ليس بالخفي على علماء الإجتماع أن النظام النيوليبرالي يكرّس ظروف التهميش و الهشاشة الإجتماعية التي تجعل من العمل في الحقل الجنسي آخر ملاذ للعديد من النساء و الرجال المهمشين اقتصاديا و اجتماعيا، يكمن الحديث حينئذ عن “تسليع” للجسد النسوي خاصة كأثر من آثار النيوليبيرالية.

6. كيف تشرح انسحاب الدولة من القطاع العام وتخليها عن لعب دورها الاجتماعي أمام سيطرة الشركات المتعددة الجنسية و الرأسمال الأجنبي في مدينة مراكش من خلال فرض اجندة نيوليبرالية على المغرب مضمونها ترك الرأسمال الخاص الأجنبي و المحلي حرا طليقا دون قيود؟

أولاً يجب الإشارة أن هذا الإنسحاب ليس هو كما يُتصوّر، فالدولة تبقى أهم فاعل في عمليات الوسم و التسويق التجارييْن للمدينة (city branding) على الرغم من الإنسحاب المزعوم. ثانياً، و نظراً لنقص الموارد المالية تتسم مدن الجنوب ببعض السمات المشتركة. فهذه المدن تتنافس على الرأسمال المحلي و الأجنبي و ذلك بإعطاء الأولوية للجاذبية العالمية كوسيلة لسد الحاجة المالية. نجد في المقدمة مدناً تزخر بتراث ثقافي يستهوي منظمات مثل اليونيسكو فإنها تراهن على منح و تبرعات هذه المنظمات كما تتبنى السياسات الاقتصادية التي تمليها المؤسسات المالية الكبرى كالبنك الدولي و صندوق النقد الدولي. ثالثاً، في سياق مدينة مراكش، فقد حاججت في كتابي أن الدولة المغربية تخلق بيئة سياسية تُحفّز من خلالها تغييرات إجتماعية و مكانية عبر فرض الوضع القانوني و الإقتصادي الراهن (un statu quo juridico-legal). و لهذا، فإن الدولة تتحكم في عمليات التهجير من الأحياء الواعدة اقتصادياً (المدينة العتيقة مثلاً) فاتحةً المجال للمنظمات غير الحكومية لإحداث و تسليع “التراث المادي و اللامادي” بينما في الوقت نفسه، يقود القطاع الخاص عمليات المد الحضري و السيطرة على أراضي الجموع المحيطة بالمدينة لإيواء الفئات المهمشة. كل ذلك يتم تحت غطاء قانوني موروث عن الفترة الإستعمارية. خلاصة القول هو أن دور الدولة يتمثل في ما يسمى في الدراسات النقدية ب “الحكامة المتهاونة عمداً” و “حكامة الإستثناء كقاعدة” عند كل من فرحة غنام و جورجيو آغامبين و آيوا أُونغ.

لقد حاولت من خلال كتابي أن أقدم للقارئ المغربي تحليلا مغايرا لما هو سائد، حول تسليع الحياة الاجتماعية في مراكش، و تفكيك الدعاية القائلة بأن المدينة نموذج ناجح في التنمية المستدامة  التي تستند إلى املاءات المؤسسات المالية الكبرى.

وفي الأخير، يحذوني الأمل أن يلقى كتابي تفاعلا وتجاوبا من المهتمين وينال نصيبه من النقاش والنقد.