المغرب في مواجهة الامبراطوريات الاستعمارية

الديون العمومية آلية أساس في استراتيجية غزو الرأسمالية وهيمنتها. كان لها دور هام في سياسات القوى الامبريالية العظمى، خاصة بريطانيا وفرنسا، خلال القرن التاسع عشر، واستخدمت لإخضاع شعوب كل من اليونان (1820-1830)، وهايتي (1825)، وتونس (1881)، ومصر (1882)، والمغرب (1912). وارتبطت الديون العمومية التي سمحت باستعمار البلدان التابعة بتوسع التبادل الحر، مما جعل اقتصادات هذه البلدان تعاني من التخلف البنيوي.

الديون المؤدية إلى الاستعمار

يعود أول قرض أجنبي مفروض على المغرب إلى عام 1861. أعلنت إسبانيا الحرب على المغرب، واحتلت تطوان في عام 1860، وطالبت بتعويض عن الحرب مقداره حوالي 100 مليون فرنك. وكانت بريطانيا- التي كانت مصالحها مهمة في المغرب منذ معاهدة عام 1856 التي منحتها مكانة “الدولة الأكثر رعاية” والتي كانت ترغب في الحد من توسع إسبانيا- قد قبلت منح المغرب قرضًا لتسديد هذا التعويض. بلغ رأس المال الإسمي للقرض الممنوح 501200 جنيه إسترليني – حوالي 17 مليون فرنك سويسري – في حين بلغ رأس المال الحقيقي الذي تلقاه السلطان 426000 جنيه إسترليني بمعدل فائدة 5٪. هذا القرض، الذي جرى سداده بالكامل في عام 1882، لم يمثل سوى جزءٍ صغيرٍ من تعويض الحرب. وستستمر التسديدات لإسبانيا حتى عام 1885، وهي السنة التي دخل فيها الاقتصاد المغربي مرحلة ركود في سياق الأزمة الطويلة الممتدة من 1873 إلى 1893 في أوروبا، والتي أدت إلى انخفاض أسعار المواد الزراعية وزيادة التدابير الحمائية للدول. وجاءت اتفاقيات مؤتمر مدريد لعام 1880، التي شاركت فيها 12 دولة غربية، لتعترف بالوجود الأجنبي وتدعم تقدم قبضة الأوروبيين على المغرب، هؤلاء الذين أصبحت لديهم إمكانية امتلاك الأراضي والممتلكات في جميع أنحاء البلد.

استمرت هذه الدول في فرض تعويضات بعد كل نزاع مسلح أو تمرد: إسبانيا في عام 1894 (20 مليون بيزيتا)، وفرنسا في عام 1887 (1.540 مليون فرنك فرنسي)، وبريطانيا في عام 1895 (120000 فرنك فرنسي)، وهولندا (125000 فرنك) وألمانيا (250000 فرنك)، مما عمق الأزمة النقدية والمالية للبلاد وأدخلها في سيرورة استدانة وبالتالي، إخضاعها.

في عام 1902، منحت المملكة المتحدة وإسبانيا قرضين قيمتهما 7.5 مليون فرنك للمغرب لتسديد ديونه السابقة. وشهد الأخير تمردات وانتفاضات، وفقد السلطان عبد العزيز الشرعية تماما لحكم البلاد. ووقعت فرنسا، المتنافسة مع القوى الأخرى، اتفاقية قرض في 12 يونيو 1904، تم منحه من قبل مجموعة من البنوك بما في ذلك بنك باريس والأراضي المنخفضة (يسمى حاليا BNP Paribas). بلغ رأس المال الإسمي 62.5 مليون فرنك بمعدل فائدة سنوي قدره 5٪. فيما بلغ رأس المال الحقيقي الذي تلقاه السلطان 48 مليون فرنك. في الواقع، احتفظت البنوك بمبلغ 12.5 مليون دولار لتغطية تكاليف الإصدار. من هذه الـ 48 مليون فرنك، جرى استخدام 22.5 مليون لتسديد القروض الثلاثة السابقة بين عامي 1902 و1903، وجرى استخدام 15.5 مليون لتسديد ديون صغيرة أخرى، خاصة تكاليف إصدار العملات. بالتالي، لم يحصل المخزن (السلطة المركزية المغربية) مباشرة سوى على 10.5 مليون فرنك، أي أقل من 20٪ من المبلغ الذي وجب عليه تسديده. ويتم ضمان خدمة الدين من خلال إيرادات الجمارك اليومية وسيجري تسديد القرض بالكامل في عام 1929. وقد منح هذا القرض المجموعة البنكية الحق، لوحدها، في منح قرض للمغرب والإشراف على تأسيس بنك دولة المغرب عام 1907.

بين عامي 1904 و1907، اقترض المغرب مبالغ صغيرة من تجار القطاع الخاص والبنوك الأوروبية الأخرى وطلب تسبيقات نقدية من بنك الدولة الذي أنشئ في عام 1907. واستمرت تعويضات الحروب الفرنسية والإسبانية لتبلغ 76 مليون فرنك في عام 1907 (70 مليون لفرنسا، و6 ملايين لإسبانيا). وفي عام 1910، جرى دفع تعويضات للعائلات التي تضررت من أعمال العنف ضد الأجانب عام 1907 (13 مليون فرنك).

أعاد مؤتمر الجزيرة الخضراء في عام 1906 تحديد مكانة المغرب إزاء  القوى الأوروبية في سياق الاحتجاجات الشعبية المتزايدة والتمردات في وقت انخفضت فيه مداخيل الخزينة. وبذلك وقع المغرب عقد قرض في 21 مارس 1910. وبلغ رأس المال الإسمي 101 مليون فرنك، في حين لم يتلق السلطان سوى 90 مليون فرنك. جرى إصدار 202248 من السندات في وقت لاحق في طنجة وباريس وبرلين وفرانكفورت ومدريد في 7 يونيو 1910، بمعدل فائدة 5 ٪. تم توزيع الاصدار بشكل غير متكافئ بين الدول المختلفة. وكانت المجموعة الفرنسية هي نفس المجموعة التي أصدرت قرض عام 1904. ووصل استهلاك هذا الدين الى 5200000 وكان مضمونًا بجميع الإيرادات الجمركية.

فكك الاستعمار اقتصاد المغرب وأقحمه في النظام التجاري العالمي وحال دون تصنيعه.

إن قرض عام 1910 هو قمة عشرية من المديونية ستؤدي إلى إقامة الحماية الفرنسية على المغرب في مارس 1912. وفي ذلك التاريخ، كان ثلث مديونية البلاد يخصص لتعويضات الحرب الفرنسية والاسبانية، في حين أن جميع القروض المبرمة بين 1904 الى 1910 مثلت منها تلك التعويضات ما يقارب 60%. وبشكل عام، كانت المديونية تمثل في المتوسط %40 من إيرادات الدولة.

الديون خلال الفترة الاستعمارية

سمحت معاهدة الجزيرة الخضراء 1906 بفتح البلاد وإرساء حقوق استيراد ضعيفة بينما زادت القوى الغربية من إجراءاتها الحمائية. وأرست فرنسا الرقابة على الصرف في عام 1939 لضمان تفوقها الحصري. ثم جرى تحديد العلاقات التجارية مع المغرب من خلال عضويته في منطقة الفرنك.

كانت الديون أداة أساس لهذا الاستعمار. وقد تراكمت من خلال العديد من القروض الفرنسية التي تعددت ابتداء من 1930 بالخصوص. خلال سنوات 1920 و1930، جرى تحويل حصة متزايدة من الثروة من المغرب إلى فرنسا لخدمة ديونه. وزاد الانكماش الذي أعقب الركود الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي من عبء الديون. وشكلت القروض جُزءً مهما من تدفقات رأس المال من فرنسا إلى المغرب. وجرى تخصيص ما بين 60٪ و 70٪ من المبلغ الذي اقترضته الحكومة المركزية مباشرة في أشغال البنيات التحتية لتسهيل الاستثمار الخاص على حساب تدهور مستوى معيشة السكان. وحول ربع المبلغ الإجمالي من القيمة الثابتة للقرض الذي منح للمغرب للمقاولات الذي حصل عليه المغرب للمقاولات المسؤولة عن تشييد البنيات التحتية في البلاد، مثل السكك الحديدية والكهرباء. شكلت القروض في المتوسط ما بين ربع وثلث إجمالي تدفقات رأس المال نحو المغرب بين عامي 1912 و1945. وقد ساعدت تلك القروض على تغطية العجز في ميزان الأداءات الناتج عن الإنفاق العسكري، وخاصة الفرنسي، ولكن أيضًا العجز التجاري الذي أصبح بنيويا.

في أعقاب الاستقلال الشكلي للمغرب (مارس 1956)، بلغ جاري الدين العام الخارجي المستحق 1.084 مليار درهم في 31/12/1956 (عبد القادر برادة). هذا المبلغ يعادل 141٪ من إجمالي إيرادات الضرائب في نفس العام و101٪ من إيرادات ضريبة الدخل المتراكمة بين عامي 1956 و1960. يجب الأخذ بعين الاعتبار الدين العام الخارجي الذي تضمنه الدولة لصالح المكاتب والمؤسسات العامة والشركات صاحبة الامتياز والشركات المختلطة. وقد بلغ هذا الدين 383 مليون درهم و9 ملايين فلورين في عام 1964، أي ما يقارب 20 في المائة من الدين العام الخارجي المستحق للخزينة.

كان القرض الذي حصل عليه المغرب عام 1910 في عهد السلطان مولاي حفيظ سيسدد بعد مدة 74 سنة. لكن جرى تسديده عام 1966 بدلاً من 1984. ومع ذلك، فقد تبين أن ميزانية الدولة في عام 1994 لا تزال تتضمن بنودا لها علاقة بالقروض الأجنبية التي حصل عليها المغرب بين عامي 1912 و1956 (سداد أصل الدين ودفع الفوائد والعمولات). باستثناء التغييرات في سعر الصرف، فإن تكلفة الدين العام الخارجي الموروثة عن الاستعمار (الفوائد والعمولات) مثلت ما يعادل 150٪ من المبلغ المستحق بمجرد سدادها بالكامل! (عبد القادر برادة).

تعهدت الملكية، بتوقيعها على العقد الجديد للاستقلال عن فرنسا في عام 1956، بدفع الديون الاستعمارية الكريهة وغير المشروعة التي استخدمت لاستعباد شعبنا مدة 50 عامًا. لقد حملت العبء للأجيال اللاحقة. ولا تزال فرنسا، اليوم، أول دائن ثنائي للمغرب بقيمة 35 مليار درهم. أليس من المشروع المطالبة بإلغاء هذه الديون كحد أدنى من التعويض عن نهب ثروتنا وتدمير بيئتنا من قبل فرنسا؟ على سبيل المثال، التزمت إيطاليا في عام 2008 بمبلغ 5 مليار يورو (حوالي 50 مليار درهم!) للتعويض عن الضرر الناجم عن استعمارها لليبيا من 1911 إلى 1942، والحفاظ على مصالحها في النفط الليبي.

بعد الاستقلال الشكلي مباشرة، سوف يقع المغرب في أزمة مالية خطيرة. تدخل البنك العالمي في السياسة الاقتصادية للبلد من خلال سلسلة من القروض. سوف تحصل الملكية على قروض في وقت تقمع فيه بشدة المعارضة اليسارية الجذرية، وتقوم بتصفية رموز جيش التحرير وتفرض حالة من الاستثناء والذعر استمرت حتى أواخر التسعينيات. جزء كبير من الديون الحالية جرى الحصول عليها خلال “سنوات الرصاص” ويمكن اعتبارها “ديونا كريهة”. يجب أن تكون إذن موضوع تدقيق شعبي لتحديد شروط عقدها وخصوصا انفاقها (من الذي تعاقد؟ في خدمة ماذا؟ ومن المستفيد منها؟). شكل من “هيئة الإنصاف والحقيقة والمصالحة” خاصة بالديون…

سيسمح تدقيق الديون العمومية هذا بتحديد مبالغ الديون الكريهة وغير المشروعة المرتبطة بالفترة الاستعمارية (1956-1912) و “سنوات الرصاص” (1999-1961)– وهي تقدر عموما بـ 19 مليار دولار (حوالي 160 مليار درهم)- والمطالبة بإلغائها.

  • بقلم/ أزيكي عمر: عضو السكرتارية الوطنية لجمعية أطاك المغرب

ترجمة :يوسف فاضل

مراجعة الترجمة :حكيم حلاوة والشرقي شمام

مراجع:

  • Adam Barbe, Public Debt and European Expansionism in Morocco from 1860 to 1956. Master Public Policy and Development, 2016, École d’économie de Paris.
  • ألبير عياش. المغرب: حصيلة استعمار
  • عبد الله العروي. تاريخ المغرب
  • Abdelkader Berrada, La dépendance économique à l’épreuve de l’indépendance politique : le cas du Maroc (1956-1972)
  • Renaud Vivien, José Mukadi, Victor Nzuzi, Pauline Imbach, Luc Mukendi, « La réparation des dommages de la colonisation : l’Italie et la Libye relancent le débat ». 2008, http://cadtm.org/La-reparation-des-dommages-de-la

————–

نشر هذا النص في المجلة نصف السنوية “أصوات أخرى من الكوكب” (عدد 76) التي تصدرها شبكة اللجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية.

http://www.cadtm.org/Dettes-coloniales-et-reparations-17397