في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين، كان توماس بيكيتي دقيقًا في جمع البيانات والقيام بعمل مفيد بتحليله للتوزيع غير المتكافئ للثروة والدخل، ولكن من المهم التأكيد على أن بعض تعريفاته غير واضحة و وقابلة للأخذ والرد. لنأخذ التعريف الذي اقترحه توماس بيكيتي لرأس المال: “في كل الحضارات، يحقق رأس المال وظيفتين اقتصاديتين رئيسيتين: من جهة من أجل السكن (أي إنتاج” خدمات الإسكان”، والتي تُقاس قيمتها بالقيمة الإيجارية للمساكن: هي قيمة الرفاهية التي توفرها حقيقة النوم والعيش تحت سقف وليس خارجه)، ومن جهة أخرى كعامل إنتاج من أجل إنتاج سلع وخدمات أخرى … “.
يتابع: “تاريخيًا، يبدو أن الأشكال الأولى لتراكم رأس المال تتعلق بكل من الأدوات (الادوات المصنوعة من الحجر، إلخ) و الادوات الزراعية (الأسوار، والري، قنوات الصرف، وما إلى ذلك)، فضلاً عن أساسيات السكن (الكهوف، الخيام، الاكواخ وما إلى ذلك)، قبل الانتقال إلى الأشكال المتزايدة التعقيد لرأس المال الصناعي والمهني وأماكن المعيشة الأكثر تطوراً. ها نحن ذا، قد أغرقنا “بيكيتي” في تاريخ خيالي للبشرية حيث كان رأس المال موجودًا منذ البداية وحيث مداخيل من حساب توفير لمتقاعد فقير يماثل مداخيل رأس المال.
رأس المال حسب توماس بيكيتي
يجد هذا الالتباس الكبير، امتداده في التحليل الموجود في قلب كتابه الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. بالنسبة لتوماس بيكيتي، فإن الشقة التي تبلغ قيمتها 80 ألف يورو أو وديعة 2000 يورو في حساب بريدي تشكلان رأس مال، تمامًا مثل مصنع أو مبنى تجاري بقيمة 125 مليون يورو. من الواضح أنه في الحياة اليومية، يعتبر الجميع أن لديهم رأس مال على شكل شقة بقيمة 80.000 يورو، يضاف إليها تأمين على الحياة بقيمة 10000 يورو وربما 2000 يورو على حساب بريدي. وبالتالي، فإنهم سيوافقون تمامًا على التعريف الذي قدمه بيكيتي، وكتب الاقتصاد التقليدية ومصرفيوهم. لكنهم مخطئون لأن رأس المال في المجتمع الرأسمالي هو بمثابة علاقة اجتماعية تسمح للأقلية بإثراء نفسها من خلال الاستيلاء على عمل الآخرين (انظر أدناه).
ومع ذلك، عندما يتحدث بيكيتي عن ضريبة تصاعدية على رأس المال، فإنه يضع في اعتباره جميع الأصول الخاصة، سواء كانت 1000 يورو في حساب مصرفي أو ثروة لاكشمي ميتال أو جيف بيزوس أو بيل غيتس أو إيلون ماسك.
يستمر الارتباك عندما يتعلق الأمر بالدخل: الدخل المتأتي من استئجار شقة متواضعة أو المتأتي مما يقبضه المتقاعد من حسابه المصرفي، المعتبران من قبل “بيكيتي” دخلًا رأسماليًا على نفس أساس الدخل الذي يجنيه من Facebook ، رئيسه مارك زوكربيرج.
عندما نعالج الرواتب، يعتبر “توماس بيكيتي” أن كل الدخول المعلنة كرواتب هي رواتب، سواء كانت دخل مدير تنفيذي لبنك يتلقى “راتبًا” قدره 3 ملايين يورو سنويًا (في هذه الحالة، يعتبر هذا المبلغ في الواقع دخلا من رأس المال وليس راتبًا) أو دخل موظف بنك يتقاضى 30 ألف يورو سنويًا.
رأس المال حسب كارل ماركس
من المناسب أن نتساءل عن المعنى الذي ينسبه “بيكيتي” لكلمات مثل “رأس المال”، ثم نقوم بتعريف المقصود بالدخل من رأس المال أو الدخل من العمل بطريقة أخرى. يقدم “بيكيتي” رأس المال على أنه معطى موجود في جميع الحضارات، ويجب أن يكون موجودًا دائمًا. هنا، ينخرط في استمرارية الاقتصاد السياسي ابان القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وهو ما نجده عند مؤلف مثل “آدم سميث” على وجه الخصوص، قبل أن يعالج “كارل ماركس” حقيقة رأس المال (و الأجور) و يطور نقدًا للاقتصاد السياسي في عصره.
يسخر “كارل ماركس” من المؤلفين في عصره الذين يرون في الأدوات البدائية المصنوعة من الحجر ، أصل رأس المال أو ببساطة يرونه رأس مال. إليكم ما كتبه: “ربما يكون هذا هو السبب وراء اكتشاف العقيد تورينس، من خلال عملية منطق “عال”، في حجر البدائي، أصل رأس المال. “في العصى الأولى التي يلقيها البدائي على الطريدة التي يتبعها، في العصا الأولى التي يستعين بها لقطف الفاكهة التي لا يستطيع الوصول إليها بيده، نرى تخصيص اداة بهدف الحصول على أخرى، كيف نكتشف أصل رأس المال. “(ر.تورنز: مقال عن إنتاج الثروة، إلخ. ص 79)”. يضيف “ماركس” بصراحة ودون تصديق كلمة واحدة: “من المحتمل انه كذلك بفضل هذه العصا الاولى، في اللغة الفرنسية القديمة، مما لدى ألمانيا من مخزون، كما ما لدى انجلترا من مخزون، يأتي أصل مرادف رأس المال.” يشرح كارل ماركس أن الحرفي الذي يمتلك أدواته ويعمل لحسابه الخاص ليس لديه رأس مال ولا يتلقى راتبًا. خلال القرون التي سبقت انتصار الطبقة الرأسمالية على النظام القديم، عملت الغالبية العظمى من المنتجين بمفردهم، سواء في المدن أو في القرى: يشكل الحرفيون المنظمون في اجهزة en corporations أو الاسر الفلاحية، غالبية المنتجين/ات. يملكون أدوات الإنتاج الخاصة بهم. وفي الريف كانت غالبية اسر الفلاحين تمتلك الأرض، بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم استخدام السلع الجماعية لإطعام ماشيتهم جزئيًا أو لجمع حطب التدفئة.
بين نهاية القرن الخامس عشر ونهاية القرن الثامن عشر في أوروبا الغربية، كان على الطبقة الرأسمالية النامية الحصول على دعم الدولة لتنزع الادوات و الاراضي من هذه الكتلة من المنتجين وتجبرهم على قبول العمل كأجراء من أجل البقاء. لقد أفقرت الطبقة الرأسمالية الطبقات الشعبية وطردتها من ممتلكاتها لإجبارها على قبول شروط الأجير. لم تتطور العملية على نحو طبيعي. حلل كارل ماركس بطريقة مفصلة وصارمة طرق التراكم البدائي لرأس المال. في الكتاب الأول من “رأس المال”، استعرض جميع الأساليب المستخدمة لنزع ملكية المنتجين من وسائل الإنتاج، وبالتالي من وسائل عيشهم.
يستمد “كارل ماركس” من كتاب نشره إدوارد جيبون ويكفيلد (20 مارس 1796 – 16 مايو 1862) حكاية توضح وجهة نظره: ” يخبرنا السيد بيل، بنبرة يرثى لها، أنه أخذ من إنجلترا إلى نهر سوان برفقته، هولندا الجديدة، مؤن ووسائل إنتاج بقيمة خمسين ألف جنيه إسترليني. كان لدى السيد بيل أيضًا البصيرة ليرافقه ثلاثة مئة من أفراد الطبقة العاملة، رجال، نساء وأطفال. عند وصوله إلى وجهته، “تُرك السيد بيل بدون خادم ليرتب له سريره أو يجلب له الماء من النهر. ” يعلق كارل ماركس بسخرية: ” خطط بيل المسكين لكل شيء! نسي فقط تصدير علاقات الإنتاج الإنجليزية الى سوان ريفر”. في الواقع، في أستراليا، حيث كانت تقع نيو هولاند، كان هناك وفرة من الأراضي المتاحة، وتمكن العمال من الحصول على قطعة أرض والعمل فيها بمفردهم. يريد كارل ماركس، من خلال التعليق على إخفاق بيل الرأسمالي هذا، أن يُظهر أنه طالما أن المنتجين يمكنهم الوصول إلى وسائل العيش، الأرض، في هذه الحالة، فإنهم ليسوا مجبرين على الموافقة على وضع انفسهم في خدمة الرأسمالي.
يستنتج “كارل ماركس”: “عندما يستطيع العامل أن يراكم لنفسه، ويستطيع ذلك طالما يمتلك وسائل إنتاجه، فإن التراكم والإنتاج الرأسماليان مستحيلان. إنهم يفتقرون إلى طبقة الاجراء، والتي لا يمكنهم الاستغناء عنها.” (…) ” الشرط الأول للإنتاج الرأسمالي هو أن ملكية الأرض قد انتُزعت بالفعل من أيدي الجماهير”.
ويضيف: “إن نمط الإنتاج والتراكم الرأسمالي، وبالتالي الملكية الخاصة الرأسمالية، يفترضان إبادة الملكية الخاصة القائمة على العمل الشخصي. أساسها، مصادرة ملكية العامل.”
يكتب “كارل ماركس”: “إن امتلاك المال والعيش والآلات ووسائل الإنتاج الأخرى لا يجعل الإنسان رأسماليًا، ما لم يكن هناك مكمل معين، وهو الاجير، وهو رجل آخر، باختصار، مجبر على بيع نفسه طواعية.”
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن “كارل ماركس”، في نفس القسم من رأس المال المخصص للتراكم البدائي، شجب بأكبر قوة الإبادة أو إخضاع السكان الأصليين باستعمال القوة الوحشية في أمريكا الشمالية والمناطق الأخرى، ضحايا الهيمنة الاستعمارية و التراكم البدائي لرأس المال: “اكتشاف أراضي الذهب والفضة في أمريكا، وتحويل السكان الأصليين إلى عبيد، ودفنهم في المناجم أو إبادتهم، وبدايات الغزو والنهب في جزر الهند الشرقية، وتحويل أفريقيا إلى نوع من البرية التجارية لصيد الجلود السوداء، هذه هي العمليات المثالية للتراكم البدائي التي تعلن عن فجر العصر الرأسمالي”.
عواقب تعريف رأس المال حسب توماس بيكيتي
بالرجوع إلى كتاب بيكيتي، فإن التعريف الوارد هناك لرأس المال يقدم ارتباكا/ خلطا تاما. لنعد إلى تعريفه: “في كل الحضارات، يؤدي رأس المال وظيفتين اقتصاديتين رئيسيتين: من ناحية توفير الإسكان (…)، ومن ناحية أخرى كعامل إنتاج لإنتاج سلع وخدمات أخرى .. . “. بالنسبة لبيكيتي، فإن رأس المال موجود في جميع الحضارات، ويعود إلى عصور ما قبل التاريخ من خلال الكتابة: “تاريخيًا، يبدو أن الأشكال الأولى لتراكم رأس المال تتعلق بكل من الأدوات (الادوات المصنوعة من الحجر، إلخ) (…) بالإضافة إلى أساسيات السكن (الكهوف، الخيام، الأكواخ، إلخ)، قبل الانتقال إلى الأشكال المتزايدة التعقيد لرأس المال الصناعي والمهني”. بالنسبة لبيكيتي، فإن الأداة المصنوعة من الحجر التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، والكهف، ومصنع تجميع الكمبيوتر هي رأس المال. إذا أردنا أن نصدق Piketty، فان التراكم “الرأسمالي” يعود حتى إلى مجموعة من أحجار متعددة مصقولة ومضروبة.
هذا الوصف لا يجعل من الممكن على الإطلاق فهم الخصوصية التاريخية لرأس المال، تشكله، طريقة إعادة إنتاجه، تراكمه، الطبقة التي ينتمي إليها، العلاقات الاجتماعية وعلاقات الملكية التي ينتمي إليها، قائمة أمثلة رأس المال التي قدمها توماس بيكيتي تشبه كتالوج Lidl أو Carrefour، وهي بطريقة ما جرد على نهج الشاعر الفرنسي Prévert، لا ينقصه الا الراكون.
عند الحديث عن التراكم الرأسمالي اليوم، يؤكد بيكيتي على نحو حصري تقريبًا على دور الارث والسياسة الضريبية التي في صالح الرأسماليين، لكن في الواقع، هذه العوامل، التي تلعب دورًا لا يستهان به في نقل وتعزيز رأس المال، لا تخلقه. تاريخيًا، لكي يشرع رأس المال الرأسمالي في عملية تراكم ضخمة، كان من الضروري بالقوة تجريد المنتجين من أدواتهم ووسائل عيشهم، وكان من الضروري استغلال قوة عملهم. إن تراكم رأس المال الذي يستمر حتى يومنا هذا يفترض مسبقًا استمرار استغلال العمال والطبيعة. لا يلعب رأس المال دورًا مفيدًا للمجتمع على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، فإن السعي وراء تراكمه ونشاطه هو قاتل بالمعنى الحرفي للكلمة. بتجاهل ذلك، قد يكتب بيكيتي: “طالما أن رأس المال يلعب دورًا مفيدًا في عملية الإنتاج، فمن الطبيعي أن يكون له عائد.”
لا شك في أن الارتباك الذي يحتفظ به بيكيتي، يتعلق بقناعاته: “أنا لست مهتمًا بإدانة عدم المساواة أو الرأسمالية على هذا النحو، (…) عدم المساواة الاجتماعية لا تشكل مشكلة في حد ذاتها، وكي تكون مبررة بالنسبة للأقلية، فهي مبنية على المنفعة العامة (…).
إن نقدي للتعريفات التي قدمها توماس بيكيتي لا ينتقص من الاهتمام بالصورة الضخمة التي يرسمها حول تطور التفاوتات من حيث الثروة والدخل على مدى القرنين الماضيين. وبغض النظر عن الخلافات الأساسية التي لا يمكن إنكارها حول مفهوم رأس المال، من المهم السعي إلى التنظيم و التجمع، من أجل تحقيق إصلاح ضريبي مناهض للنيوليبرالية، بين مجموعة واسعة من الحركات والأفراد من توماس بيكيتي حتى حركات اليسار المناهضة للرأسمالية. إذا كان من الممكن كذلك التنظيم للمطالبة بإلغاء الديون العمومية التي يحتفظ بها البنك المركزي الأوروبي والتي تبلغ قيمتها أكثر من 2.5 تريليون يورو، فيجب القيام بذلك. لست نادمًا على توقيعي المشترك في فبراير 2021 مع توماس بيكيتي على دعوة لإلغاء الديون السيادية التي في حوزة البنك المركزي الأوروبي. مثل أعضاء CADTM الآخرين الذين وقعوا هذا النص، أعتقد أنه يجب علينا المضي قدمًا، لا سيما من خلال فرض ضريبة كبيرة على الثروات الكبيرة والشركات الكبيرة. تَعْتَبِر CADTM أن إلغاء الديون العامة يجب أن يكون مصحوبًا بسلسلة من الإجراءات المناهضة للرأسمالية وليس من المؤكد أن توماس بيكيتي سيشترك فيها.
(*)للمزيد من المعطيات، يرجى الرجوع الى المقال الاصلي مع الهوامش.

ترجمة : يوسف فاضل
تدقيق لغوي: حكيم حلاوة

الرابط الاصلي للمقال