أجرى موقع الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية(CADTM) حوارا مع المناضل و الصحفي التونسي غسان بن خليفة للوقوف على مستجدات الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس على ضوء النضالات الشعبية التي اندلعت مؤخرا.
إليكم نص الحوار
1-ما هو السياق الاقتصادي و السياسي العام الذي أتت فيه التحركات والاحتجاجات الشعبية الأخيرة بتونس؟
أتت الاحتجاجات الأخيرة في سياق إحياء الذكرى العاشرة لثورة الشعب التونسي التي اندلعت خلال شهري دجنبر 2010 ويناير 2011، وانتهت بإسقاط الديكتاتور السابق بن علي وخلعه وتهريبه إلى السعودية. وحيث حاولت السلطة إحياء الذكرى على نحو احتفائي إثر مرور عشر سنوات على الانتقال الديمقراطي. هذا فيما كان الرد الشعبي هو الانتفاض احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتأزمة، التي فاقمتها ظروف وباء كورونا. واللافت للنظر أن الفئات المشاركة بهذه الاحتجاجات هي، تقريبا، نفسها التي تشارك كل سنة في إحياء ذكرى الثورة. ففي كل سنة، كل ذكرى، تنظم احتجاجات بمناطق مهمشة كالقصرين، سيدي بوزيد، القيروان، قفصة.. وأيضا بالأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى، العاصمة تحديدا، كحي التضامن، الانطلاقة، سيدي حسين.. واللافت هذا العام كذلك، أن الجيل الذي يشارك، وكان أكثر ضراوة في مبارزة البوليس، هو جيل لم يشهد الثورة، بل ترعرع بعدها، فوجد نفسه في واقع بئيس. هو جيل شباب وجدوا آباءهم يتحدثون بحسرة عن أيام الديكتاتورية، حيث الأسعار كانت أقل ارتفاعا، وحيث كان المواطن، رغم حرمانه من حرية التعبير والمشاركة السياسية، إلا أنه كان يتمتع بالحد الأدنى وقادرا على العيش على الأقل، عكس ما تشهده الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية اليوم من تدهور. وكما يحدث دائما، غالبا ما يقع حدث يحفز الاحتجاج، وهذا ما مثلته جملة وقائع تجسدت هذه المرة في انتشار فيديو يُظهِرُ إهانة شرطي لراعي أغنام أثناء مرور أغنامه من أمام مقر الولاية وقت إشراف السلطة على تنظيم احتفال بروتوكولي بمناسبة ذكرى الثورة. حصل كذلك اعتداء بوليسي على جماهير فريق النادي الافريقي لكرة القدم مرفوق بإيقاف بضعة شبان. خلق كل هذا، اضافة إلى أحداث أخرى أقل أهمية، استعدادا ونوعا من التوافق الضمني، بين الأحياء الشعبية، على الاحتجاج والخروج للتظاهر بالشارع وتحدي البوليس، وتحدي الدولة التي لا يعرف منها ذلك الجيل، سوى التواجد البوليسي المتواتر في الأحياء الشعبية.
على المستوى الاقتصادي يتميز الوضع بإفلاس غير معلن للدولة، ويتضح ذلك من خلال الأرقام والميزانيات والنقاشات الجارية وتحليلات من يوصفون بـ “الخبراء”، وكلها متفقة على أن تونس في حالة شبه افلاس. فالدولة اليوم تتخبط، وهي تحاول ايجاد طريقة لتمويل الميزانية والخروج من أزمة الدين التي وضعتنا فيها سلطات ما بعد 14 يناير 2011.
يتميز السياق السياسي الحالي كذلك بصراع على مستوى السلطة، في محورين متقاطعين. من جهة، صراع بين “قيس سعيد”، الرئيس المنتخب بأغلبية كبيرة، الذي يمكن القول إنه محافظ، يحرص على حد أدنى من السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية، وهو محافظ باعتباره أستاذا للقانون الدستوري، وغير قادم من تجربة سياسية. من جهة ثانية، ثمة صراع داخل التحالف الحكومي بقيادة “حركة النهضة” وحليفيها: اليمين الليبرالي بزعامة “قلب تونس” و” ائتلاف الكرامة” المتفرع عن “حركة النهضة” المتميز عنها فقط بكونه أكثر جرأة وأكثر تخلفا كذلك، من حيث خطابه السياسي، وبين هذين القطبين يجري صراع. فبعد فشل “النهضة” في تشكيل الحكومة الأولى، وبما أن الدستور، في هذه الحالة، يخول الرئيس صلاحية اختيار شخصية لرئاسة الحكومة، جرى اختيار “المشيشي”، لكن الأخير سرعان ما انقلب على الرئيس “قيس سعيد” وصار دمية بيد “حركة النهضة” والائتلاف الحكومي، واليوم يحاول “سعيد” التخلص منه، فبقي تشكيل الحكومة معطلا لثلاثة أشهر، ولا يزال..
حاولت “النهضة” والائتلاف ترشيح وزراء تحوم حولهم شبهات فساد، لكن “سعيد” رفض تأديتهم اليمين [القَسَم] والوضع لا يزال في حالة انسداد حاليا. وأمام تفاقم الوضع الاقتصادي، صار يجري، في الفترة الأخيرة، نوع من التوافق على تحديد “قيس سعيد” كمسؤول عن هذا الوضع، وعن كل شيء، وكمعطل للتشكيل الحكومي، ومعرقل لحلحلة ممكنة للوضع الاقتصادي من شأنها اطلاق عجلة النمو.. وكل هذا الكلام.. يعني هناك محاولة داخلية وخارجية، في السفارات والاعلام الفرنسي.. للتخلص من “قيس سعيد”. وطبعا، ثمة لعبة للمحاور الاقليمية، نقصد تدخلات دولة الامارات والسعودية ومعهما الدولة العبرية، وحتى قطر وتركيا، وإن بدرجة أقل، وكلها أطراف لا مصلحة لها في بقاء “قيس سعيد” لأنه غير متمادِ مع أي محور من تلك المحاور.
ثمة، في نفس السياق، وفي اطار الصراع السياسي المحتدم، ظاهرة “عبير موسي” زعيمة “الدستوري الحر”، وريث “التجمع الدستوري الديمقراطي” بعد وفاة “الباجي قايد السبسي”، والتي تتزعم المعارضة ضد “النهضة” في البرلمان وفي الشارع، وقد خلقت كثيرا من الضوضاء.. ولديها قدرة على المبادرة في البرلمان، رغم صغر كتلتها السياسية، وعلى افتعال المعارك، وتنظيم حملة “لايفات” على الفايسبوك.. وقدرة على تعطيل عمل رئاسة البرلمان .. ومؤخرا انتقلت الى الشارع، من خلال تنظيم اعتصام تطالب فيه بحل جمعية علماء المسلمين، فرع تونس، التابعة لـ”الاخوان”، ويتصدى لها من يمكن تسميتهم “الباراشوك” أو واجهة “النهضة” أي “ائتلاف الكرامة” الذي يتكون من اسلاميين يتبنون أسلوبا يختلف عن “النهضة”.
هذا هو السياق الاقتصادي والسياسي الذي أتت فيه التحركات، التي تواصلت بعد تململ الأحياء الشعبية، ثم تحركات الفلاحين الذين احتجوا على الزيادة في أسعار الأعلاف وتوريد الحليب واللحوم، وفق سياسة رسمية ممنهجة للقضاء على طبقة صغار الفلاحين وإجبارهم على بيع أراضيهم للمستثمرين الفلاحيين، ولاحقا لشركات البزنس الكبير الباحثة عن الأرباح على حساب هؤلاء.
2- كيف انطلقت التحركات وما دور القوى السياسية؟
انطلقت الاحتجاجات بمساندة من جرحى الثورة الذين كانوا ينظمون اعتصاما بمقر هيئة شهداء جرحى الثورة والشهداء ضحايا العمليات الارهابية والمقاومين، وهي هيئة رسمية فارغة المضمون وعاجزة عن فعل شيء لصالح الضحايا، فاضطروا للاعتصام للمطالبة بنشر القائمة الرسمية لشهداء وجرحى الثورة في الجريدة الرسمية، لأنه دون ذلك، لن يعترف بهم أحد، أو بحقهم في العلاج والسكن والشغل. فنظموا اعتصاما ونحن ساندناهم، في اطار حملة إسناد وطنية واجتماعية. ثم جاءت مجموعات شبابية يسارية أخرى، ضمنها أعضاء أحزاب وأشخاص مستقلون. وكانت هذه المجموعات هي التي بدأت التحركات بصورة موحدة. في تلك الأثناء برزت تحركات الأحياء الشعبية في كل مكان للاحتجاج على التهميش، حيث تقاطعت المسارات، وتطور الأمر الى تحركات أكبر لمساندة الاحتجاجات الشعبية في المدينة القديمة وسط العاصمة، فاندلعت مناوشات مع البوليس وجرت ايقافات.
بدأت التحركات تخفت شيئا فشيئا بالأحياء الشعبية، ثم حولت اهتمامها لمتابعة موضوع الموقوفين وقضية الشهيد “هيكل الراشدي” الذي قتله البوليس بعبوة غاز أطلقت على وجهه بولاية القصرين. واصلت مجموعات أخرى الخروج في احتجاجات كل يوم سبت بالعاصمة، لكننا انفصلنا عنها لحدوث خلاف بسبب خلطها بين قضايا معينة، مثل قضية “الكويريين” وخلاف حول حركة الاحتجاج نفسها، التي حولتها تلك المجموعات الى معركة مع البوليس.
هذا ما يمكن قوله باختصار حول علاقة الاحتجاج بالقوى السياسية.
3- تحل الذكرى العاشرة للثورة التونسية، والبلد لا يزال يعرف تبعية للمؤسسات المانحة، وتعد الاليكا اتفاقية استعمارية حقيقية، ما هو تقييمك للخيارات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة على الحكم منذ فرار بن علي؟
في الواقع، هي نفس اختيارات عهد “بن علي” وحتى ما قبله، أي التي سادت منذ السبعينيات مع حكومة “الهادي نويرة” الذي قام بتصفية التعاونيات/التعاضيات خاصة في الفلاحة، تلك التي أرساها الوزير السابق “أحمد بن صالح” ثم دمرها “الهادي نورة” الذي كان مديرا للبنك المركزي، وهو الليبرالي الذي أتى بسياسة تحرير الاقتصاد في تونس، وهو واضع القانون رقم 72 الخاص بالشركات المصدرة، وهو من جلب المستثمرين الأجانب وفتح الباب للعديد من رؤوس الأموال التي استفادت من سياسة تفويت/تصفية المؤسسات العمومية بتونس، فتراكمت ثروات هؤلاء المستثمرين فصارت عندنا بورجوازية كومبرادورية، وقد تواصل هذا مع “بن علي” من خلال اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي عام 1996 ثم مع منظمة التجارة العالمية سنة 2005، لكن “بن علي” كان الرجل القوي الممسك بزمام الأمر في البلاد، اقتصاديا وسياسيا، وكان المستفيد الأكبر من ذلك هم أفراد العائلات المقربة منه، أصهاره بالأساس، وقد كان من الطبيعي أن يثير هذا تناقضا بينه وبين جزء آخر من البورجوازية التي ترى أن العائلات المقربة من الرئيس صارت تحتكر الاستفادة من ثروة البلد، وهذا ما جعل ذلك التناقض يستمر حتى سقوط “بن علي”، ثم جاء الانتقال الديمقراطي بالشروط الامبريالية، والذي خلق تداولا بين أحزاب يمينية، بحكم أنها تملك رؤوس الأموال ووسائل اعلام وتتمتع بعلاقات خارجية، وبالتالي تواصلت نفس السياسات، بل تعمقت، بعد أن صارت لتلك القوى السياسية شرعية ديمقراطية وانتخابية. لهذا صار الكثير من التونسيين يستشعرون نوعا من الحسرة على عهد “بن علي” لأنهم وقتها كانوا ينعمون بالخير وكانت أسعار المواد الأساس أقل ارتفاعا. إنها نفس السياسة المتواصلة، لكن “بن علي” كان يضرب ألف حساب قبل أن يقرر تحرير الاقتصاد، وكان يخاف الانتفاضة الاجتماعية، وها قد تحققت الانتفاضة الاجتماعية بالفعل، لكن جرى الالتفاف عليها، والذين يحكمون اليوم أصبحت شرعيتهم مستمدة من الصندوق الانتخابي، فواصلوا نفس السياسات التي عممت الفقر في الأوساط الشعبية، وهم الذين يحظون بالمساندة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرهما.
4- الأكيد أن هناك بدائل شعبية تطرحها المنظمات التونسية المناضلة إزاء تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلد هل يمكنك أن تعطينا لمحة عامة عن ما يطرحه اليسار المناضل في تونس اليوم؟
اليسار المناضل ضعيف جدا ولا يزال في طور البناء والبحث عن الذات. هناك الجبهة الشعبية، وهي تجمع لأحزاب يسارية وقومية، تأسست سنة 2012، وبعدها حصل اغتيال بعض رموزها؛ شكري بلعيد ومحمد البراهمي. شاركت الجبهة في انتخابات 2014 وحصلت على 15 مقعدا بالبرلمان. كانت بحوزتها كتلة جيدة، لكنها لم تعرف كيف تستفيد منها لافتقادها تقاليد العمل للانغراس طبقيا ووسط الفئات الشعبية.
حصرت الجبهة نفسها بالبرلمان وببعض وسائل الاعلام البورجوازية، ولم تعرف كيف تتواصل مع الشعب وتنغرس فيه، فكانت النتيجة المنطقية هي سقوطها في صراعات داخلية أدت الى اندثارها. ففي انتخابات 2019 لم يبق من نواب الجبهة سوى نائب واحد من أصل 15، بعد انهزام الآخرين، حيث لم يعد للجبهة أثر يذكر.
هذا بالنسبة لليسار الاصلاحي المناضل. أما اليسار الثوري فلا يزال عبارة عن مجموعات صغيرة تبحث عن نفسها؛ تطرح التغيير الجذري، لكن من غير توافق على الأساليب، بل حتى على الأولويات أحيانا. فالخطاب الثوري حاضر، لكن لا تزال هناك مراهنة على الانتخابات، علاوة على المجتمع المدني وتحركات الشارع.. اليسار الثوري قادر يفهم ويبني أنوية هنا وهناك، ويحاول الالتحام بالطبقات الشعبية، الا أن الطريق لا يزال طويلا والمهام متعاظمة.