اكتسب البنك العالمي وتوأمه المزيف صندوق النقد الدولي سمعة رهيبة في العالم الثالث منذ بداية عصر النيوليبرالية في ثمانينيات القرن العشرين. وذلك لأن هاتين المؤسستين الماليتين الحكوميتين الدوليتين، اللتان تعدان الركيزتان الرئيسيتان للنظام الاقتصادي العالمي إثر الحرب العالمية الثانية تحت الهيمنة الأمريكية، ويشهد على ذلك بجلاء حقيقة أن كليهما يقع مقرهما بواشنطن،كانتا ناقلتين مميزتين لمد التحول النيوليبرالي للنظام الرأسمالي إلى الجنوب الكوكبي.

كان هذا التغيير أكثر إيلاما في البلدان الفقيرة منه في أفقر البلدان الغنية. لنأخذ على سبيل المثال أحد الإجراءات الرئيسية للتحول النيوليبرالي: خصخصة مقاولات الدولة. إن المسافة بين ظروف العمل السائدة في القطاع الخاص وتلك الموجودة في القطاع العمومي أكبر بكثير في بلدان جنوب الكرة الأرضية منها في البلدان المتقدمة اقتصادياً. في الأخيرة، تسمح قوة النقابات العمالية وقواعد سيادة القانون فيما يتعلق بتشريعات العمل وتعميم التأمين الاجتماعي الإجباري بتقليل الفجوة بين النظامين الأساسيين. في المقابل، تتميز البلدان الفقيرة بوجود «قطاع غير رسمي» ضخم خالٍ من جميع الحقوق، ويصاحب الانتقال من القطاع العمومي إلى القطاع الخاص تدهور كبير في ظروف العمل.

نعلم أن هشاشة الشغل هي إحدى العواقب الضارة الرئيسية للتحول النيوليبرالي في البلدان المتقدمة اقتصاديًا. لكن العمال غير المستقرين في هذه البلدان بصرف النظر عن العدد القليل من ضحايا جحيم العمل غير الرسمي  يتمتعون عمومًا بحقوق ومكاسب أكثر بكثير من الغالبية العظمى من عمال القطاع الخاص في البلدان الفقيرة، الذين كان وضعهم دائمًا غير مستقر في الواقع، إن لم يكن مشرعا قانونا.

لنأخذ مثالاً آخر: المبدأ المقدس المتمثل في التخفيض الشديد لعجز الميزانية الذي يستلزم بالضرورة خفض الإنفاق الاجتماعي والاستثمار العمومي، أيا كانت مع ذلك التوصيات المنافقة للمؤسسات المالية الدولية لصالح الإنفاق على التعليم والصحة. بدمج هذا المبدأ مع مبدأ الخصخصة سيتاح فهم أن حكومات العالم الثالث، في ظل غياب مقاومات نقابية واجتماعية سياسية قوية، تميل إلى تجاهل هذين القطاعين الحيويين لصالح متاجر القطاع الخاص التي تحكمها زيادة الأرباح إلى أقصى حد، مقدمة إما خدمات ذات جودة رديئة للغاية أو خدمات بأسعار باهظة جدا للغالبية العظمى من السكان.

تفسح الاستثمارات العمومية المسترشدة عمومًا باحتياجات المجتمع والاقتصاد ككل المجال لاستثمارات خاصة «حرة» بشكل متزايد، أي متحررة من الضبط العمومي، موجهة بإغراء الكسب السريع على أساس فساد متزايد وأسواق مهووسة. والنتيجة هي تطور رأسمالية المحسوبية وأنشطة المضاربة بجميع أنواعها. تتسع التفاوتات الاجتماعية بلا هوادة مع هذه التغييرات: الإثراء الجامح للأقلية الثرية مقابل تدهور الظروف الاجتماعية والفقر النسبي أو المطلق للغالبية العظمى.

لذلك سيكون مفهوما عندئذ أنه إذا كان بإمكان النيوليبرالية أن تدعي أنها النتيجة الطبيعية الإلزامية للديمقراطية الليبرالية في نصف الكرة الأرضية الشمالي، في وقت توسعها المتزامن نحو أوروبا الشرقية الذي أعقب انهيار الديكتاتوريات الاشتراكية المزعومة، فقد اتضح في دول الجنوب أن فرض مجموعة كاملة من الإجراءات النيوليبرالية يتطلب في كثير من الأحيان قبضة حديدية استبدادية. إنه خط مستقيم، في الواقع، يمتد، على مدار أربعة عقود، من الجنرال أوغستو بينوشيه أول بطل للتغيير النيوليبرالي، قائد الانقلاب الدموي الذي وضع حدًا للديمقراطية التشيلية عام 1973، إلى المارشال عبد فتاح السيسي، قائد الانقلاب الأكثر دموية الذي وضع حدًا للتجربة الديمقراطية المصرية عام 2013، تمهيدًا للتطبيق الكامل الأول لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية التي شهدتها بلاده.

كانت الرافعة الاقتصادية الرئيسية التي جرى بواسطتها فرض النظام النيوليبرالي المعد في واشنطن على دول العالم الثالث هي رافعة المديونية. كان الارتفاع المفاجئ في المديونية الذي أعقب الارتفاع الهائل في أسعار النفط بالسوق العالمية سنوات سبعينيات القرن الماضي الأداة الرئيسية للابتزاز الممارس على بلدان الجنوب العالمي لإجبارها على تطبيق برامج التحول النيوليبرالي المقنع، تحت التسمية التكنوقراطية «التقويم الهيكلي».

هكذا، ليس من قبيل المصادفة بأي حال من الأحوال أن إريك توسان أصبح أحد أفضل العارفين بالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي خارج الدوائر المسيرة لهذه المؤسسات. كان يدرسها عن كثب منذ حوالي 30 عامًا–وهي مهمة وضعها لنفسه منذ أن أسس لجنة إلغاء ديون العالم الثالث عام 1990، المسماة لاحقا لجنة إلغاء الديون غير الشرعية، ولكنها لا تزال معروفة بمختصر اسمها الأصلي:  CADTM. هكذا، درس إريك على الفور البنك العالمي كمراقب ناقد، وجمع على مر السنين معرفة نادرة بالعالم الثالث الذي زاره مرارا ذهابًا وإيابًا–هذا العالم الثالث الذي يعد مجال عمل البنك العالمي المميز في العصر النيوليبرالي. لذا استطاع إريك كشف جوانب عديدة كان الهدف أصلا إخفاؤها وراء الحجاب المعتم الذي يغطي التمويل الدولي وعمل المؤسسات الاقتصادية الحكومية الدولية.

بنضاله الدؤوب من أجل قضية العالم الثالث وبلدان أخرى خاضعة، أصبح إريك توسان خبيرًا معروفًا دوليًا بشأن قضايا الديون الخارجية. وهذا الكتاب نتيجة عقود بحث وخبرة عملية والتزام نضالي. وكما قد يتوقع المرء، فإنه كتب للجمهور الواسع: إنه كتاب تعليمي، حيث نتعرف على المهنة الأولى لإريك، مدرس سابق في التعليم التقني والمهني، وهو كتاب خالٍ من المصطلحات التقليدية للمنشورات التكنوقراطية أو الأكاديمية التي تجعل القراءة غير متاحة للغالبية العظمى من الأشخاص المتأثرين بالمواضيع التي تعالجها تلك المنشورات. هؤلاء الناس فعلا هم المستهدفون بهذا الكتاب، وليس أعضاء نخبة السلطة الاقتصادية العالمية.

لتحميل الكتاب : اضغط هنا

ترجمة:اطاك المغرب

الرابط الاصلي للمقال: هنا