ابتداء من 27 فبراير 1953، استفادت ألمانيا من إلغاء معظم ديونها. منذ هذا الإلغاء، الذي مكّن اقتصاد هذا البلد من استعادة مكانته كقوة اقتصادية رئيسية في القارة الأوروبية، لم تستفد أي دولة أخرى من مثل هذه المعاملة التفضيلية. من المهم جدًا معرفة سبب وكيفية إلغاء هذا الدين. بإيجاز شديد: أرادت القوى الدائنة الرئيسية لألمانيا الغربية إنعاش اقتصاد هذه الأخيرة بالفعل وأن يشكل عنصرًا مستقرًا ومركزًا في الصراع بين الكتلة الأطلسية والكتلة الشرقية.
توضح المقارنة بين المعاملة التي تلقتها ألمانيا الغربية بعد الحرب وما فُرض على الدول النامية، سياسة المعايير المزدوجة التي تمارسها القوى العظمى بشكل منهجي.
علينا أن نعلم، أن ألمانيا النازية أوقفت سداد ديونها الخارجية منذ عام 1933 ولم تستأنف السداد مطلقًا، ولم يمنع ذلك نظام هتلر من تلقي الدعم المالي والقيام بأعمال تجارية مع شركات خاصة كبيرة في الولايات المتحدة – مثل شركة Ford، التي مولت إطلاق فولكس فاجن (سيارة الشعب التي تخيلها نظام هتلر)، جنرال موتورز التي تملك شركة أوبل، جنرال إلكتريك المرتبطة بشركة AEG و IBM التي اتهمت بـ “توفير التكنولوجيا” التي ساعدت على “الاضطهاد والمعاناة والإبادة الجماعية”، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
لا تعير المبالغ الملغاة أي أهمية للديون المرتبطة بسياسة العدوان والتدمير التي نفذتها ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ولا التعويضات التي يحق لضحايا هذا العدوان المطالبة بها. تم وضع ديون الحرب هذه جانباً، والتي كانت هدية ضخمة لألمانيا الغربية.
على الرغم من لعبهم دورًا رائدًا في دعم النظام النازي و شراكتهم في الإبادة الجماعية للشعبين اليهودي والغجري، إلا أن الشركات الصناعية الألمانية الكبرى مثل AEG و Siemens و IG Farben (AGFA و BASF و Bayer و Hoechst) و KruppوVolkswagen، BMW و Opel و Mercedes Benz وكذلك الشركات المالية الرائدة مثل Deutsche Bank وCommerzbank وشركة التأمين Allianz تمت حمايتها وتعزيزها. و خرج الرأس المال الألماني الكبير من الحرب العالمية الثانية سليما بفضل دعم حكومات القوى الغربية العظمى.
أصبح سداد ديون ألمانيا الغربية وإعادة الإعمار السريع بعد الحرب العالمية الثانية ممكنًا بفضل الإرادة السياسية لدائنيها، أي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الرئيسيين (بريطانيا العظمى، فرنسا). في أكتوبر 1950، صاغ هؤلاء الحلفاء الثلاثة مشروعًا اعترفت فيه الحكومة الفيدرالية الألمانية بوجود ديون تعود لفترات ما قبل الحرب وبعدها. يرفق الحلفاء اعترافا بهذا المشروع يدل على أن “الدول الثلاث تتفق على خطة تنص على تسوية مناسبة للمطالب مع ألمانيا، لا ينبغي أن يؤدي التأثير النهائي لها إلى إحداث اختلال في الوضع المالي للاقتصاد الألماني من خلال تداعيات غير مرغوب فيها أو التأثير بشكل مفرط على العملات الأجنبية المحتملة. تقتنع الدول الثلاث بأن الحكومة الفيدرالية الألمانية تشاركها موقفها، وأن استعادة القدرة على الأداء بالنسبة لألمانيا مصحوبة بتسوية مناسبة للديون تضمن لجميع المشاركين مفاوضات عادلة مع مراعاة المشكلات الاقتصادية لـ “ألمانيا”.
يبلغ الدين الألماني المطالب به فيما يتعلق بفترة ما قبل الحرب 22.6 مليار مارك إذا تم احتساب الفوائد. وتقدر ديون ما بعد الحرب بنحو 16.2 مليار دولار. خلال اتفاقية مبرمة في لندن في 27 فبراير 1953، تم تخفيض هذه المبالغ إلى 7.5 مليار مارك للأول و 7 مليار مارك للثاني. ما يعني، انخفاضًا بنسبة 62.6٪.
ينص الاتفاق على إمكانية تعليق السداد لإعادة التفاوض على الشروط إذا كان هناك تغيير جوهري يعيق توفير الموارد.
لضمان إنعاش اقتصاد ألمانيا الغربية بالفعل ولكي يشكل عنصرًا مستقرًا ومركزيا ضمن الكتلة الأطلسية لمواجهة الكتلة الشرقية، قدم الحلفاء الدائنون تنازلات مهمة جدًا للسلطات والشركات الألمانية المدينة تتجاوز تخفيض الدين. تم الانطلاق من مبدأ أنه على ألمانيا أن تكون في وضع يمكنها من تسديد الديون مع الحفاظ على مستوى عالٍ من النمو وتحسين الظروف المعيشية للسكان. التسديد بدون إفقار. لهذا، قبل الدائنون أولاً أن تسدد ألمانيا الدين بعملتها الوطنية، المارك. ثانياً، قبلوا أن تقلل ألمانيا وارداتها، ويمكنها أن تنتج بنفسها منتجات كانت تجلبها سابقاً من الخارج. ثالثًا، تسمح لألمانيا بتصدير منتجاتها الى الخارج وتحقيق ميزان تجاري إيجابي. تم تسجيل هذه العناصر المختلفة في الإعلان المذكور أعلاه.
عنصر آخر مهم للغاية، تم تحديد خدمة الديون وفقًا لقدرة الاقتصاد الألماني على السداد، مع الأخذ في الاعتبار التقدم المحرز في إعادة إعمار البلاد وعائدات التصدير. وعليه فإن العلاقة بين خدمة الدين وعائدات التصدير يجب ألا تتجاوز 5٪. وهذا يعني أن ألمانيا الغربية يجب ألا تخصص أكثر من واحد على عشرين من عائدات صادراتها لسداد ديونها.
إجراء استثنائي آخر: تطبيق تخفيض جذري في أسعار الفائدة، والتي تتراوح بين 0 و 5٪.
أخيرًا ، يجب أن نأخذ في الاعتبار التبرعات بالدولار من الولايات المتحدة إلى ألمانيا الغربية: 1173.7 مليون دولار في إطار خطة مارشال بين 3 أبريل 1948 و 30 يونيو 1952 (انظر الجدول في قسم خطة مارشال) و التي إضيف لها ما لا يقل عن 200 مليون دولار بين عامي 1954 و 1961، بشكل رئيسي من خلال وكالة التنمية الدولية للولايات المتحدة (USAID).
بفضل هذه الظروف الاستثنائية، أنهت ألمانيا سداد ديونها في عام 1960. انه وقت قياسي. حتى أنها تمتعت برفاهية توقع السداد.
بعض عناصر المقارنة
إن نتيجة المقارنة الأولى بين ألمانيا الغربية في فترة ما بعد الحرب والبلدان النامية اليوم واضحة.على الرغم من ندوب ألمانيا بسبب الحرب، كانت أقوى اقتصاديًا من معظم الدول النامية اليوم. إلا أنها منحت عام 1953 ما تم رفض أن تستفيد منه الدول النامية.
حصة عائدات التصدير التي تنفق على سداد الديون
لم يسُمح لألمانيا بتجاوز إنفاق 5٪ من عائدات صادراتها على سداد الديون. من الناحية العملية، لم تخصص ألمانيا أبدًا أكثر من 4.2٪ من دخلها التصديري لسداد الديون (تم الوصول إلى هذا المبلغ في عام 1959).
على أي حال، نظرًا لأنه تم سداد جزء كبير من الديون الألمانية بالمارك الالماني، يمكن للبنك المركزي الألماني إصدار الأموال، وبعبارة أخرى: تحويل الدين إلى نقود.
في عام 2019، وفقًا للبيانات التي قدمها البنك الدولي، كان على البلدان النامية تخصيص 15.41٪ في المتوسط من دخل صادراتها لسداد إجمالي ديونها الخارجية (14.1٪ أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ؛ 26.84٪ بالنسبة لبلدان أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، 11.02٪ لبلدان شرق آسيا والمحيط الهادئ، 22.3٪ لبلدان في أوروبا وآسيا، 13.27٪ لبلدان في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، 11.16٪ لبلدان في جنوب آسيا) .
بعض الأمثلة عن البلدان بما في ذلك البلدان النامية والاقتصادات الأوروبية الطرفية: في عام 2019، وصل هذا الرقم إلى 26.79٪ لأنغولا، 53.13٪ للبرازيل، 11.01٪ للبوسنة، 12.85٪ بلغاريا، كولومبيا 32.32٪، ساحل العاج 12.35٪، إثيوبيا 28.94٪، غواتيمالا 26.06٪، إندونيسيا 39.42٪، 88.21٪ لبنان، 12.33٪ المكسيك، 19.95٪ نيكاراغوا، 35.35٪ باكستان، 11.45٪ بيرو، 27.19٪ صربيا، 15.74٪ تونس، 34.29٪ تركيا.
سعر الفائدة على الدين الخارجي
في حالة اتفاقية 1953 المتعلقة بألمانيا، يتأرجح سعر الفائدة بين 0 و 5٪.
في المقابل، في حالة البلدان النامية، كانت أسعار الفائدة أعلى بكثير. تتضمن الغالبية العظمى من العقود معدلات متغيرة في الارتفاع.
بين عامي 1980 و 2000، بالنسبة لجميع البلدان النامية، تأرجح متوسط سعر الفائدة بين 4.8 و 9.1٪ (بين 5.7 و 11.4٪ في حالة أمريكا اللاتينية والكاريبي وحتى بين 6.6 و 11.9٪ في حالة البرازيل، بين 1980 و 2004).
في عام 2019، على سبيل المثال، بلغ متوسط سعر الفائدة 7.08٪ لأنغولا، و 7.11٪ للإكوادور، و 7.8٪ لجامايكا، و 9.76٪ للأرجنتين، و 11. 15٪ للبنان.
العملة التي يُسدد بها الدين الخارجي
سُمح لألمانيا بالتسديد بعملتها الوطنية.
لا يحق لأي دولة في الجنوب أن تفعل الشيء نفسه باستثناء الحالات والمبالغ السخيفة. يجب على جميع البلدان المثقلة بالديون أن تسدد جميع مدفوعاتها بالعملات الصعبة (الدولار واليورو والين والفرنك السويسري والجنيه الإسترليني).
شرط مراجعة العقد
في حالة ألمانيا، نصت الاتفاقية على إمكانية تعليق التسديد لإعادة التفاوض على الشروط إذا كان هناك تغيير جوهري يحد من توفير الموارد.
في حالة عقود الديون مع البلدان النامية، يدرك الدائنون أنه لا يوجد بند من هذا النوع. وهذا على الرغم من أن حكمًا صدر مؤخرًا عن محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي يؤكد أنه يمكن للدولة تعديل التزامات ديونها بسبب ظروف استثنائية.
القضاء المختص في حالة النزاع
في مسائل سداد الديون الخارجية، تمكنت المحاكم الألمانية من رفض إنفاذ قرارات المحاكم الأجنبية أو هيئات التحكيم الأجنبية في حالة كان تطبيقها يهدد النظام العام.
وقد رفض الدائنون هذا الحكم للبلدان النامية. يجب القول إن الدول المدينة مخطئة في التخلي عن اختصاصها القضائي بينما حصلت المحاكم الألمانية على الكلمة الأخيرة.
سياسة استبدال الاستيراد
تنص اتفاقية الديون الألمانية صراحة على أن البلاد يمكن أن تنتج محليًا ما كانت تستورده من قبل.
من ناحية أخرى، يوصي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عمومًا بأن تمتنع البلدان النامية عن الإنتاج المحلي لما يمكنها استيراده.
التبرعات بالعملة الأجنبية (النقدية)
على الرغم من أن ألمانيا كانت مسؤولة بشكل كبير عن الحرب العالمية الثانية، فقد تمت مكافأتها بتبرعات ضخمة من النقد الأجنبي كجزء من خطة مارشال وما بعدها.
والبلدان النامية ككل، التي وعدت الدول الغنية بتقديم المساعدة و الاعانة لها، تتلقى الصدقات على شكل تبرعات بالعملة الأجنبية. بين عامي 2000 و 2018، سددت البلدان النامية ما متوسطه 214 مليار دولار أمريكي كل عام، أي أكثر بكثير من 100 مليار دولار أمريكي التي تلقتها في شكل “مساعدة” و “إعانة”. لا تتلقى أكبر البلدان المدينة في العالم الثالث أي مساعدة على شكل تبرعات بالعملة الأجنبية.
مما لا شك فيه أن رفض منح البلدان النامية المثقلة بالديون نفس النوع من الامتيازات المقدمة لألمانيا، يشير إلى أن الدائنين لا يريدون بجدية أن تتخلص هذه البلدان من ديونها. يرى الدائنون أن لديهم مصلحة في إبقاء البلدان النامية في ديون دائمة، من أجل جني أقصى عائد منها في شكل مدفوعات ديون، وفرض سياسات عليها تتماشى مع مصالح الدائنين ولضمان ولائهم داخل المؤسسات الدولية.
إن ما تحققه الولايات المتحدة فيما يتعلق بالدول الصناعية التي دمرتها الحرب عبر خطة مارشال، قد تم منحه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بطريقة مماثلة، فيما يتعلق ببعض الدول النامية المتحالفة مع الولايات المتحدة والتي تتمتع بمواقع استراتيجية على مشارف كل من الاتحاد السوفياتي والصين. منحت الولايات المتحدة في شكل تبرعات مبالغ أعلى بشكل واضح من تلك التي أقرضها البنك الدولي لبقية الدول النامية. هذا هو الحال بشكل خاص في كوريا الجنوبية وتايوان اللتين تلقتا، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، مساعدات حاسمة كان من المفترض أن تكون أحد مكونات نجاحهما.
لإعطاء فكرة : بين عامي 1954 و 1961، تلقت كوريا الجنوبية في شكل تبرعات من الولايات المتحدة مبلغًا أكبر من جميع القروض التي منحها البنك لدول العالم الثالث المستقلة (الهند ، باكستان ، المكسيك ، البرازيل ، بما في ذلك نيجيريا). تلقت كوريا الجنوبية على شكل تبرعات من الولايات المتحدة أكثر من 2500 مليون دولار بين عامي 1953 و 1961، بينما بلغت القروض التي منحها البنك لجميع الدول النامية المستقلة خلال نفس الفترة 2323 مليون دولار. وبلغت التبرعات لتايوان قرابة 800 مليون دولار خلال هذه الفترة. ولأنها احتلت مكانًا استراتيجيًا في مواجهة الصين والاتحاد السوفيتي، فقد حصلت كوريا الجنوبية الزراعية الصغيرة التي يسكنها أقل من 20 مليون نسمة على مزايا الولايات المتحدة. من ناحية السياسات الاقتصادية، تغاضى البنك والولايات المتحدة في حالة كوريا وتايوان، عما رفضاه بالنسبة للبرازيل أو للمكسيك.
ترجمة : أطاك المغرب