في هذا الحوار الذي أجريناه مع البروفيسور والمناضل جلبير الأشقر نتناول طبيعة سياسات المؤسسات المالية ونتائجها في المنطقة العربية خلال العقود الماضية. وتعود أهمية هذا الحوار إلى أنه يأتي قُبيل عقد المؤسستين الماليتين لاجتماعهما السنوي في المغرب، خلال شهر أكتوبر 2023.
وهذا نص الحوار:
1- هل للمنطقة الناطقة بالعربية خصوصية تضفي طابعًا ما مميزًا على سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، قياسًا بسائر بُلدان العالم الثالث؟
طبعًا، لكل منطقة من مناطق العالم خصوصيتها ولكل بلد من بُلدان العالم خصوصيته، لكن هذا بالضبط هو لبّ المشكلة مع المؤسسات المالية الدولية، حيث إنها لا تأخذ الخصوصيات بعين الاعتبار، وبالتالي تحاول فرضَ برامجَ مُماثِلةٍ تمامًا في خطوطها العريضة على جميع البُلدان.
هذا سبب من الأسباب الرئيسية في الفشل العظيم لتلك البرامج في المنطقة العربية، ذلك أنها برامج مبنية على جملة من الفرَضيات التي تختلف عن واقع الحال في المنطقة الناطقة بالعربية. إنها برامج من وحي التصور النيوليبرالي، أي أنها تعتبر أنه لا بدّ للقطاع الخاص من أن يكون هو مُحرّك الاقتصاد، وتقضي من ثَمَّ بتقليص حجم الدولة من أجل إفساح المجال أمام القطاع الخاص.
لكنّ التجاربَ قد بيّنت أن القطاع الخاص فاشل في لعب هذا الدور في المنطقة، والسبب هو عدم وجود ظروف كافية تحثّ الاستثمار الخاص على توظيف الرساميل على نطاق واسع وطويل الأمد في القطاعات المنتجة، وهو نوع الاستثمار المطلوب للتنمية. فبسبب طبيعة الظروف القائمة في هذه المنطقة، وعلى الأخص طبيعة الأنظمة العربية، تتميّز المنطقة بغياب لدولة القانون بالمعنى الفعلي للكلمة في أي من بُلدانها، ووجود درجة عُليا من الفساد ومن الرشوة، وطغيان ما يُسمَّى برأسمالية المحاسيب. تستند النيوليبرالية إلى تصوّر مثالي للرأسمالية على أنها قائمة على المنافسة الحُرة، لكن هذه المنافسة الحُرة لا وجود لها في الواقع في منطقة يعتمد الحصول على عقود فيها على العلاقة بأهل السلطة.
هذه أسباب تجعل إرشادات المؤسسات المالية الدولية للمنطقة إرشادات ليست فاشلة وحسب، بل لعبت دورًا أساسيًا في خلق الأزمة الاجتماعية الاقتصادية القائمة، والتي عبَّرت عنها بصورة رئيسية حالة البَطالة، بخاصة بِطالة الشباب التي هي أعلى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مما هي في سائر مناطق العالم. وهذا ما أدّى إلى الانفجار الكبير الذي سُمِيَّ بالربيع العربي عام 2011، والذي تلته موجة ثانية من الانتفاضات في عام 2019.
وسوف تشهد المنطقة بالتأكيد موجات أخرى من الانتفاضات، لأن الأزمة، بدلًا من أن تسير نحو الحلّ، تتعمّق وتتفاقم، ما يعني أن المنطقة اليوم دخلت منذ عام 2011 في نفق طويل، هو ما أسميته ـ”سيرورة ثورية طويلة الأمد”، بما يعني استمرار الأزمة إلى أن تجد شعوب المنطقة سبيل التغيير الجذري. وإن لم يحصل ذلك، فالبديل ليس العودة إلى طبيعة الاستقرار الاستبدادي الذي كان قائمًا قبل “الربيع العربي”، بل غَرَق المنطقة في مزيد من الأزمات ومزيد من البِطالة ومزيد من التفكك ومزيد من الحروب. بكلام آخر، فإن المنطقة اليوم على مفترق طرق بين التغيير التقدُّمي وبين الغرق في الهمجية.
2- فيما يختلف الوضع بالمنطقة؟ وما سياسةُ المؤسستين الماليتين إزاء البُلدان ذات الموارد النفطية وسواها المفتقرة إليها؟
تتميّز المنطقة بتعدد البُلدان المُصدرِّة للنفط والغاز فيها، منها الدول الخليجية بالطبع، لكن أيضاً بلدان أخرى أهمها ليبيا والجزائر والعراق، تليها مصر.
الاختلاف الرئيسي بين دول مجلس التعاون الخليجي وباقي الدول، هو أن الأولى بمعظمها أثرى بكثير، لأن مداخيلها بالمقارنة مع حجم سكانها أكبر بكثير. وهذا ينطبق حتى على المملكة السعودية التي تتميّز بحجم سكاني أكبر مما لدى باقي الدول الخليجية، لأن حجم مواردها النفطية ضخم جدًا. لا ترتهن هذه الدول بالقروض الخارجية، بل يقوم بعضها بدور مُكمِّل لدور المؤسسات الدولية المانحة في منح القروض، فضلاً عن الاستثمارات المباشرة.
وتقوم باختيار الدول بناءً على مقاييس سياسية واقتصادية، وهو ما يمنحها أداة نفوذ بالتعاون مع المؤسسات المالية. وهي تتكل على هذه الأخيرة للتأكد بأن ما تمنحه من قروض أو مساعدات اقتصادية لا تذهب في مهب الريح، أو تؤكل نتيجة سوء الإدارة والفساد. ولنا مثال مؤخرًا في موقف السعودية إزاء مصر وتونس، إذ لم تعد على استعداد لتقديم العون بلا محاسبة.
وبالتالي، فبُلدان المجلس الخليجي تقوم بدور يتضافر مع دور صندوق النقد الدولي إذ تطالب بضوئه الأخضر كي تمنح مساعداتها وقروضها، وهذا الضوء الأخضر مُرتِهن بتنفيذ برامج الصندوق النيوليبرالية المُتمثَلة في تقليص دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، والتقشّف والخصخصة.
3- شهدت المنطقة انطلاق سيرورة ثورية عام 2011، تلتها اندفاعة ثانية في عام 2019، ماذا كان تأثيرهما على سياسة المؤسستين الماليتين، وكيف تتعامل الأنظمة المستبدة مع التغيرات التي حدثت؟ وهل تُساير الأنظمة تلك السياسات بحذافيرها مع ما تحبل به من إمكانات تَفجُّر جديد؟
أشرتُ سابقًا إلى الموجتين الثوريتين اللتين شهدتهما هذه المنطقة منذ الشرارة الأولى التي انطلقت من تونس في أواخر عام 2010. لكن المؤسستين الماليتين لم تراجع سياساتها في ضوء ما حدث، لاسيما الموجة الأولى في عام 2011 التي شهدت احتجاجات كُبرى شملت ربوعًا كثيرة في المنطقة، كان المغرب أحدها.
لم تستخلص المؤسسات المالية أي درس حقيقي، ولو كان الأمر كذلك لتوجّب عليها أن تغيّر سياستَها تغييرًا جذريًا. إلّا أن هذه السياسات قائمة على العقيدة النيوليبرالية التي لا تزال تهيمن على التوجه السائد في الرأسمالية العالمية، بحيث اقتصر ردّ فعل المؤسسات المالية إزاء الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على التأكيد بإصرار أكبر على برامجها النيوليبرالية، بدلًا من أن تُقرَّ بأن هذه البرامج ساهمت في خلق بِطالة الشباب القياسية، الناتجة عن عدم استعداد القطاع الخاص للاستثمار الملائِم للتنمية للأسباب التي سبق أن ذكرناها. فعِوَض أن ترى ذلك وتستخلص منه درسًا بأنه لا بدّ من أن يكون للقطاع العام دور رائد ومركزي في دفع التنمية، انتهت إلى استخلاص أن الأزمة نتجت عن تطبيق لبرامجها غير كافٍ، فكان رد فعلها الإصرار على التطبيق الشامل والجذري لبرامجها الإصلاحية.
والمثال الأبرز هو مصر، وهي من البُلدان التي شهدت حالة ثورية، فقد استمر صندوق النقد الدولي في الضغط على مصر حتى وصل السيسي إلى السلطة، وأرسى نظامًا أكثر قمعية من نظام مبارك بدرجات، بحيث أن حكم السيسي هو الوحيد الذي أقدم على تنفيذ كامل إرشادات الصندوق في خريف عام 2016 وما زال يلتزم بتعليمات الصندوق منذ ذلك الحين.
ونستخلص مرة أخرى درسًا تاريخيًا بأن فرض الإجراءات النيوليبرالية على شعب ما، غالياً ما يتطلب حكمًا ديكتاتوريًا استبداديًا، وهذا يناقض تمامًا الإيديولوجية القائلة إن النيوليبرالية تمشي يدًا بيد مع الديمقراطية. ومن المعروف أن أول تجربة نيوليبرالية جذرية كانت في تشيلي، حيث قام الجنرال بيونشيه، بعد انقلاب عام 1973، بإحضار خبراء اقتصاديين نيوليبراليين قاموا بتغييرات جذرية في اقتصاد البلاد. قامت أول تجربة نيوليبرالية شاملة في تشيلي وكانت مصحوبة بديكتاتورية، وهذا ما نرى تأكيدًا له في منطقتنا.
نرى اليوم، حكم قيس سعيّد في تونس، وهو حكم سلطوي أوتوقراطي انقلب على المؤسسات الدستورية، وهو يتعرض لضغط كبير من صندوق النقد الدولي من أجل تطبيق إرشاداته. لكنّ النظام التونسي يبدو أكثر ضعفًا مما كان عليه النظام المصري في عام 2016، حيث استطاع السيسي فرض برنامج الصندوق على حساب الشعب، فانهارت شروط عيش الجماهير وانهارت قيمة الجنيه المصري وانتشر الغلاء…إلخ.
في تونس يضغط صندوق النقد من أجل حصول الشيء نفسه، غير أن الحكم متردد، لأنه لا يملك مقدار القوة ذاته الذي كانت لدى نظام السيسي في وجه الحركة الشعبية، وإن أراد قيس سعيّد تنفيذ البرنامج سوف يصطدم لا محالة مع الحركات الجماهيرية، بخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعارض سياسة المؤسسات المالية الدولية.
وفي النهاية يعارض صندوق النقد الدولي تطلعات الشعوب كما بدت في “الربيع العربي” وموجة عام 2019، وهو يسعى وراء فرض المزيد من التغيير النيوليبرالي الذي ثارت ضده الجماهير، فإن ضغطه المستمر مناقض للتغيير الديمقراطي الذي تمنته الجماهير في الانتفاضات. فإن صندوق النقد الدولي يدفع عمليًا في اتجاه معاكس تمامًا للديمقراطية، بمطالبته بإجراءات يلزمها الاستبداد من أجل فرضها على الجماهير الشعبية.
4- في كل بُلدان المنطقة تزداد النسبة المُخصَّصة لسداد الديون، ما يعني في السياق الحالي المزيد من تقليص الميزانيات العمومية والتراجع عن المكتسبات الاجتماعية، ويترافق كل ذلك مع موجة غلاء تشمل كل المواد الاستهلاكية، وهو وضع أسوأ من الشروط التي فجَّرت موجة الثورات في نهاية 2010 وعام 2011. ما الاحتمالات المُمكنة لتطور هذا الوضع؟
كما ذكرت في البداية، الأزمة سوف تتفاقم لا محال ما لم يحصل تغيير جذري في طبيعة الأنظمة في المنطقة، وتغيير جذري في طبيعة السياسات الاقتصادية مع الانتقال من سياسات نيوليبرالية إلى سياسات تنموية تهدف إلى تحسين شروط معيشة الجماهير الكادحة. فإن لم تظهر حركات شعبية قادرة على إحداث تغيير فعلي ستستمر الأزمة وتتفاقم منتجة مآسٍ شتى.
إذا نظرنا إلى ما حصل منذ انفجار الأوضاع في المنطقة قبل 12 عامًا، نجد حروبًا أهلية في سوريا وليبيا واليمن والسودان، ناهيك من العراق الذي لا يزال الوضع فيه غير مستقر نتيجة الاحتلال الأمريكي. تواجه المنطقة اليوم مستقبل معتم ومخيف إن لم تقُمْ حركات شعبية قادرة على التغيير. إنها أزمة تاريخية عظيمة، وما دامت مستمرة سيبقى الأفق مسدودًا، وستهترأ الحالة أكثر فأكثر.
لذا هناك إلحاح تاريخي لظهور قوى قادرة على تغيير طبيعة الأنظمة وتغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية بصورة جذرية، ولا مجال لإحداث ذلك من غير الثورة الشعبية، إلَّا إن حصل تغيير عالمي وتبدلت سياسات المؤسسات الدولية بصفة جذرية، لكننا لا نلحظ ذلك في الأفق اليوم. إننا أمام أزمة عميقة ومستعصية.
5- بعد انتكاسة الانتفاضات العربية، وكذلك موجتها الثانية، ما حصيلة القوى العاملة من أجل التغيير؟ وهل من تَقدُّم على صعيد العامل الذاتي؟
لقد شددت منذ بداية الانتفاضات على أن المنطقة دخلت في سيرورة ثورية طويلة الأمد من شأنها أن تدوم عقودًا، وتشهد بالضرورة توالي مراحل هبة وانتكاسة، وثورة وردّة، كما شهدتها كافة السيرورات الثورية الكبرى، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمنطقة كاملة من العالم.
فمثلًا، لم يحصل انتقال أوروبا الغربية والوسطى من الحكم الملَكي المطلق إلى الديمقراطية الليبرالية بين ليلة وضحاها، ولا في شهر أو سنة، بل استمر عقودًا طويلة. وبعد محطات الثورة الأوروبية الأولى كالثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية، شهدت القارة هبة ثورية كبرى في منتصف القرن التاسع عشر (1848) هُزمت، ثم تلتها هبات ثورية أخرى امتدت حتى نهاية قرن.
في المنطقة الناطقة باللغة العربية، شهدنا لغاية الآن تراكم تجارب ثورية، هي تجارب غنية حتى وإن أخفقت. وقد اضمحل دور حركة الإخوان المسلمين في الموجة الثورية الثانية، بعد أن تمكنت من ركب الموجة الأولى من أجل الوصول إلى السلطة في كل من مصر وتونس وبدرجة أقل في ليبيا واليمن، فضلًا عن المغرب حيث تولّت الحكومة بقرار من الملكية. وكانت النتيجة فشل الإخوان المسلمين في كل هذه البُلدان في الخروج من الأزمة، لأن ليس لديهم رؤية اقتصادية تختلف عن سياسات الأنظمة القائمة، فسقف برامجهم هو النيوليبرالية ولا يعارضون إرشادات المؤسسات المالية الدولية.
هذا وقد رأينا أيضًا أن الناس استخلصت من “الربيع العربي” الأول أن الجيوش عندما تُقِيل رئيسًا ما في الدول التي يحكمها العسكر، فهذا لا يعني أنها تريد إحلال الديمقراطية، بل تريد الحفاظ على امتيازاتها وسلطاتها كمؤسسات عسكرية.
لقد هبت في الموجة الثانية انتفاضات في كل من السودان والجزائر، حيث تكرر السيناريو المصري، بحيث قام الجيش بإقالة الرئيسين بوتفليقة والبشير، لكن دون أن تنطلي هذه العملية على الجماهير مثلما انطلت عليها في مصر، بل استمرت الحركة الشعبية في مطالبتها بسلطة مدنية وعودة العسكر إلى الثكنات. إذًا تكتسب الجماهير خبرة مع الوقت، وهي دروس ثمينة تستخلصها الجماهير من التجربة، لا بقراءة المقالات والكتب.
والمسألة الأخرى هي التنظيم، والمقصود هنا هو الأشكال التنظيمية. فمن هذه الناحية، شهد السودان حالة أرقى ممَّا عرفته انتفاضات عام 2011.
في سوريا في البداية، قبل أن تتحول الأوضاع من ثورة شعبية إلى حرب، كانت هناك لجان تنسيق محلية تقوم بإدارة العملية الثورية، وقد رأينا صيغة من إدارة النضال المحلية قبل “الربيع العربي” في الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1988. ذلك أن الجماهير حينما تعيش في وضع قمعي تحت الديكتاتورية أو الاحتلال، تبتكر صيغًا تنظيمية جماهيرية أفقية تعوّض عن غياب حزب جماهيري لا تسنح الظروف لبنائه.
وقد عرف السودان التجربة الأكثر تقدُّمًا في هذا المجال مع “لجان المقاومة”، وهي صيغة تنظيمية متقدمة، رغم بعض الإشكالات مثل رفضها إيجاد صيغة تمثيل مركزية. أتفهم وأشاطر بالطبع رفض الصيغ المركزية البيروقراطية الهرمية، لكن لا بد من تنسيق مركزي للمجهود الثوري لتقوية الفعل السياسي.
هذا الأمر له جوانب مفيدة، لكن لا يمنع إيجاد حالات أرقى من التنسيق. هذه الصيغ التنظيمية القائمة على التكنولوجيا العصرية لم تكن متوفرة في انتفاضات سابقة كالانتفاضة الفلسطينية في عام 1988. لكن مساحة الضفة الغربية الفلسطينية صغيرة وبالتالي كان التنسيق فيها سهلًا، أما في بلد كبير بحجم السودان أو مصر أو سواهما، فإن للتكنولوجيا العصرية دورًا كبيرًا في تحقيق التنسيق.
إنَّ الصيغ التنظيمية العصرية ضرورية بالتالي، لكنها لا تُغني عن التنظيمات السياسية والنقابية. ففي السودان كان هناك تكامل بين “لجان المقاومة” من جهة، وبين هيئة التنسيق النقابية المعروفة باسم “تجمع المِهنيين السودانيين” من جهة أخرى، وأيضًا في البداية “قوى إعلان الحرية والتغيير” التي كانت بمثابة تحالف لأحزاب سياسية. كان هناك تكامل بين هذه الصيغ التنظيمية المختلفة، وهذا ما يفسر تفوق التجربة السودانية في المجال التنظيمي.
لكن تبقى هناك مشكلة لم تجد لها الصيغة السودانية حلًا، ولا أي صيغة أخرى في أي بلد من بُلدان المنطقة، وهي الموضوع الحيوي والمركزي في أي تغيير: كيف يتصدى الحراك للأجهزة القمعية، الأجهزة المسلحة المتضخمة التي تستند إليها الأنظمة القائمة؟ هذا السؤال لم تجد له الحركة الشعبية بَعدُ جوابًا مُلائِمًا، لاسيما أنه يتطلب عملًا تمهيديًا وتنظيمات تعمل على خلق ومدّ شبكات داخل الأجهزة المذكورة.
فحين تَهُب الثورة، يصبح من الحيوي أن تتمكن الحركة الثورية من أن تجذب إليها قسمًا كبيرًا من أفراد القوات المسلحة من جيش وقوى أمن المنحدرين من أصول اجتماعية فقيرة، والذين يشكلون قاعدة هذه القوى بخلاف قمة الهرم فيها. هذه مشكلة تاريخية كبيرة ومركزية في أي تغيير، لاسيما في بُلدان قمعية لا ديمقراطية حيث التغيير الجذري السلمي للنظام القائم شبه مستحيل.
6- هل تحوز قوى التغيير مشاريع إعادة بناء بُلدانها على أُسس بديلة لسياسة المؤسسات المالية؟ وهل مِن تنمية مُمكِنة دون تشريك للاقتصاد وديمقراطية مُغايرة نوعيًا؟
لا طبعًا، وقد ذكرت ذلك. لا يمكن تغيير مسار الأزمة والعودة إلى وضع قطار بلدان المنطقة على سكة التنمية دون تغيير جذري في السياسات الاقتصادية، وبالتالي تغيير جذري في طبيعة الأنظمة، أي في طبيعة الشروط السياسية السائدة. وهذا يعني تغييرًا في الطبيعة الاجتماعية للسلطة ونقلها من الجماعات المستأثرة بها حاليًا والتي تقوم باستغلال موارد بُلدانها، إلى حكم يمثل فعلًا مصالح الشعب العامل.
إن هذا التغيير ضروري وتطبيق البرنامج الاقتصادي لهذا التغيير ليس صعبًا، وقد شهد العالم تجارب تنموية في شتى البُلدان خلال المرحلة الممتدة من الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن المنصرم، وقد أفلحت هذه التجارب وحققت نجاحات كُبرى، وحتى في العقود الاخيرة فإن أنجح تجربة تنموية، أَلَا وهي تجربة الصين، لم تتبع المسار النيوليبرالي، بل لعبت الدولة دورًا رئيسًا جدًا فيها. فعلى الرغم من أن الصين أفسحت المجال أما تطور الرأسمالية بحيث أضحى القطاع الخاص ينتج أكثر من نصف الناتج المحلي الصيني، يبقى أن الدولة لا تزال مسيطرة على القطاعات الاستراتيجية، بما فيها البنوك وغيرها، كما بقيت تسيّر العملية الاقتصادية.
هذا نموذج يختلف جذريًا عما نلاحظه اليوم في المنطقة الناطقة بالعربية، وله سمات مشتركة مع ما كان قائمًا في الستينيات من القرن الماضي، في مرحلة ما سمّي “الاشتراكية العربية”، مثلما حصل في مصر حيث قامت الدولة باستثمارات واسعة سمحت بتحقيق خطوات هامة على درب التنمية، أتاحت رفع مستوى معيشة السكان بشكل ملحوظ. وقد توقفت هذه التنمية بموت عبد الناصر ومجيء السادات الذي قام بتفكيك المشروع الناصري في السبعينيات، وبدأ بالسير على درب ما سُمِّي لاحقًا بالنيوليبرالية، وقد تم تسريع هذا التحول في التسعينيات.
ثمة تجارب اقتصادية عبر العالم بما يكفي ويفي تؤكد أن دور الدولة التنموي أساسي في البلدان النامية، على أن يتم ذلك في إطار ديمقراطي هو الأنسب، لأن الإطار الديكتاتوري الذي شهدته الستينيات، والذي كان نموذجه الأبرز هو مصر الناصرية، أدّى إلى تبذير كبير وواسع النطاق بفعل غياب الرقابة الديمقراطية على بيروقراطية الدولة بما سمح بانتشار الفساد.
فالديكتاتورية، حتى وإن سمحت بقيام تنمية، ستشوبها مشكلات عديدة كما حصل في مصر، وتؤدي في النهاية إلى انهيار التجربة ككل، لذلك لا بُدَّ من إرساء التنمية على قاعدة ديمقراطية فعلية هي الطريق المثلى للخروج من الأزمة، ديمقراطية حقيقية مستندة إلى قرار الجماهير العاملة، تقوم على أنقاض الأنظمة القائمة التي تم بناؤها بما يخدم الأقلية الحاكمة.
7- ما التكلفة البيئية للسياسات النيوليبرالية في المنطقة الناطقة بالعربية؟
هذه التكلفة تتخطى مسألة النيوليبرالية، بل تتخطى مسألة الرأسمالية، إذ إن أنظمة العصر الصناعي قامت جميعًا بتدمير البيئة، بما فيها الدول التي لم تكن رأسمالية، بل بيروقراطية مثل الاتحاد السوفييتي. فإن أي نظام اقتصادي يسعى وراء زيادة الإنتاج بلا حدود ودون أخذ البيئة بعين الاعتبار، إنما يؤدّي إلى نتائج كارثية منذ بداية الثورة الصناعية إلى اليوم.
فقد أحدثت التراكمات الصناعية منذ أواخر القرن التاسع عشر تغيرًا مناخيًا ينذر بأن تكون نتائجه أسوأ من التقديرات الحالية، إذ يتسارع التغيُر المناخي بما يفوق كل التوقعات، في حين لا تزال الإجراءات المضادة محدودة جدًا، وهذا قِصر نظر على نطاق الرأسمالية العالمية، لأن الرأسمالية – بما هي نظام اقتصادي يسعى وراء أقصى الأرباح – لا تفكر وتخطط على المدى التاريخي البعيد، بينما يتطلب موضوع البيئة عناية على المدى الطويل.
وفي المنطقة الناطقة بالعربية بدأ تدمير البيئة قبل النيوليبرالية، بحيث إنَّ الأنظمة التي سبقت هذا العصر كانت لسياستها نتائج بيئية سيئة، وهذه حقيقة يجب قولها. فقد تجد أنظمة غير نيوليبرالية، لكنها لا تهتم بالبيئة أكثر من الأنظمة النيوليبرالية.
وفيما يخص الأنظمة القائمة في منطقتنا، فهي أسوأ من النيوليبرالية بالمعنى العام للكلمة (الموجودة في أوروبا، مثلًا) لأنها قائمة على جماعات صغيرة مستأثرة بالسلطة بشكل كامل، بحيث لا تُوجَد ليبرالية سياسية. مع ذلك، نجد بعض التفكير في كيفية الاستفادة من الطاقات البديلة، والمغرب أبرز مثال في شأن الطاقة الشمسية، كما أن السعودية بدأت تخطط لذلك، لأن نهاية العصر النفطي أصبحت وشيكة وهم باتوا يدركون ذلك.
يجب أن تكون الحركة الشعبية واعيةً تمامًا لهذا الأمر، بما أنه يمسّها بصورة أساسية، لأن المتضررين المباشرين من الأزمة البيئوية هم الفقراء. لا بُدَّ أن يحضر موضوع البيئة بشكل رئيسي ومُلِحٍ في اهتمامات الحركة الشعبية، لأن بإمكانها فرض تغييرات على الأنظمة القائمة في مجال محاربة التلوث. لا يمكن فرض الديمقراطية على الأنظمة الديكتاتورية القائمة، لأن هذا يتناقض مع طبيعتها، لكن يمكن أن تُفرض عليها إجراءات لحماية البيئة وتطوير الطاقات البديلة. لا بد من القيام بهذا النضال، إذ إنَّ هذه المطالب أصبحت مطالب حد أدنى، وهي شرط للاستمرار في العيش على هذا الكوكب.
8- يجري التحضير للاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في شهر أكتوبر بمراكش، وهناك قوى مدنية على المستوى الدولي والعربي والإفريقي والمغربي مناهضة للمؤسستين تعمل على تحضير قمة اجتماعية مضادة، ما رسالتك لهذه القوى؟
طبعًا، ألتقي تمامًا مع هذه القوى في معارضة النهج النيوليبرالي الذي تسلكه تلك المؤسسات. يجب أن نتذكر أن هذه المؤسسات واكبت المرحلة “الكينزية” في الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بحيث كانت مواكبة لمرحلة وبرامج اقتصادية كانت الدولة تقوم فيها بدور كبير في أوروبا وغيرها من البُلدان.
وقد شهدت هذه المرحلة، خاصة في عقد الستينيات، ازدهارًا اقتصاديًا كبيرًا، كانت عصرًا ذهبيًا في تاريخ الرأسمالية في مجال التنمية، مع أخذ القضية الاجتماعية بعين الاعتبار. كان هناك عالم مختلف قبل عقود، ومع الانعطاف العالمي باتجاه النيوليبرالية وسيطرة هذا الاتجاه على المؤسسات المالية الدولية، رأينا كيف انخفضت وتيرة التنمية على النطاق العالمي بصورة حادة، فيما ازدادت اللامساواة الاجتماعية بصورة هائلة. فبعد أن كانت في تقلُّص من الخمسينيات وصولًا إلى السبعينيات من القرن الماضي، أخذت الهِوَّة بين الفقراء والأغنياء تتعمَّق في المجتمعات، حتى وصلت إلى تفاوتات مذهلة في المرحلة الاخيرة.
لذا يجب النضال من أجل تغيير هذه السياسات وقلبها، مع الإدراك بأن المؤسسات الدولية المالية ليست هي مصدر القرار، بلْ إنَّ مصدر القرار هو حكومات الدول الرأسمالية الكُبرى، التي لها الوزن الرئيس في المؤسسات المالية الدولية وهي التي تحدد نهجها.
فمثلًا، لم يأت تغيُر الموقف باتجاه النيوليبرالية من داخل المؤسسات، وإنما أتى من تغيُر سياسي تمثلت بوادره في وصول مارغريت تاتشر إلى الحكم في بريطانيا، ووصول رونالد ريغان إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
أتى هذا التغيير السياسي برجعيين إلى السلطة، حاملين برنامج اقتصادي نيوليبرالي يريد تفكيك كافة السمات الموروثة عمَّا سُمِّي بـ”الكينزية” في المرحلة السابقة، وتم في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، قبل انتقال العدوى إلى باقي بُلدان العالم، تنفيذ برامج اقتصادية تعتمد على الخصخصة وتقليص النفقات الاجتماعية.
إنَّ الغاية الفِعلية من القمم المضادة هي التوعية ونقل الرسالة إلى الحركات الشعبية بضرورة تغيير جذري للسياسات الاقتصادية على النطاق العالمي، وهذا يقتضي أيضًا تغيير حكومات الدول المسيطرة على الاقتصاد العالمي لأن صندوق النقد والبنك الدوليين أداتان في يدها.
مصدر الصور: المصريون أيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 (رويترز)
لتحميل العدد الأول من مجلة أصوات الكوكب الأخرى: اضغط هنا