بعد ما يقرب من أربع سنوات من اندلاع الانتفاضة في تشرين الأول 2019، لا تزال هيمنة الأحزاب الطائفية النيوليبرالية الحاكمة قائمة على البلد وهياكل السلطة، بينما دخل اقتصاد البلاد أزمة مستمرة. في خضم هذه الأزمة، في آب 2021، وقع انفجار في مرفأ بيروت خلف أكثر من 200 قتيل وأكثر من 6500 جريح. وزادت هذه المأساة من تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي بالفعل. كما أدت جائحة كوفيد -19 العالمية وآثار الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية من خلال إثارة ارتفاع الأسعار ونقص السلع الأساسية مثل القمح والوقود النفطي.

في الوقت نفسه، واجهت الجماعات والمنظمات التقدمية داخل الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في تشرين الأول 2019 صعوبات أكبر في تنظيم وتشكيل بديل ديمقراطي وشعبي قادر على تحدي الأحزاب الطائفية النيوليبرالية.

الوضع الاجتماعي والاقتصادي في لبنان

ويمكن تصنيف الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة في لبنان ضمن الأزمات المالية العشر الأولى، وربما الثلاث الأولى، التي لم يشهد العالم أشد منها منذ منتصف القرن التاسع عشر. إذ فقدت العملة أكثر من 98٪ من قيمتها قبل الأزمة بحلول حزيران 2023، وبلغ معدل التضخم في المتوسط 171.2 في المئة في عام 2022، وهو أحد أعلى المعدلات على صعيد العالم. 

فارتفع معدل الفقر من 25 في المئة في عام 2019، إلى أكثر من 80 في المئة في عام 2023. وشهدت نسبة الأسر اللبنانية المحرومة من الرعاية الصحية طفرة وصلت إلى 33 في المئة، بعد أن كانت 9 في المئة في عام 2019. هذا فيما ازدادت نسبة العائلات العاجزة عن الحصول على الأدوية إلى 52 في المئة. وتفتقر معظم المستشفيات إلى الأدوية، وتعمل بقدرة لا تتجاوز 50 في المئة بسبب نقص موارد الطاقة فيها؛ ولقد برزت أزمات شح في النفط. وبالإضافة إلى ذلك، سبق أن غادر ما يقارب 40 في المئة من الأطباء المؤهلين و 30 في المئة من الممرضات البلد بشكل دائم أو مؤقت منذ نهاية عام 2019، ونتج ذلك عن التدهور المستمر في ظروف العيش والعمل. 

يواجه اللاجئون الفلسطينيون والسوريون ظروف معيشية كارثية في لبنان. تشير التقديرات إلى أن تسعة من كل عشرة لاجئين سوريين يعيشون في فقر مدقع. مع تفاقم الأزمة، لجأ الكثيرون إلى طرق هجرة خطيرة نحو أوروبا عن طريق البحر. وفي نيسان 2023، غرق زورق يحمل نحو 80 لبنانيا وسوريا وفلسطينيا قبالة سواحل طرابلس بعد أن اعترضته البحرية التابعة للجيش اللبناني. تم انقاذ 48 ناجيا فقط.

كما شهد العمال الأجانب الخاضعون لنظام الكفالة، الذي يحرمهم من حقوقهم المدنية والإنسانية الأساسية، تدهور أوضاعهم بشكل كبير. غالبية هؤلاء نساء من دول أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

جذور الأزمة

غير أن جذور الأزمة الراهنة في لبنان تعود إلى الاقتصاد السياسي في البلاد وإلى طريقة تطوره منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. فقد تم التركيز باستمرار على الاندماج بشكٍل أعمق في الاقتصاد العالمي، وأيضا على نمو القطاع الخاص.  ورسخت هذه السياسات النيوليبرالية بعض سمات الاقتصاد اللبناني التاريخية، فظهر نموذج تنموي يركز على المالية والعقارات والخدمات، واشتدت فيه مظاهر اللامساواة الاجتماعية والتفاوتات بين المناطق.

والواقع أن لبنان ليس فريًدا من نوعه في هذا الصدد. فقد عمد عدٌد من البلدان الخارجة من الحروب و/أو من الأزمات الحادة إلى تحرير الاقتصاد و/أو تعميق التحرير الاقتصادي، وذلك غالبًا بمساعدة المؤسسات المالية الدولية.

تاريخيا، إن أبرز خاصيتين اتسمت بهما الدولة اللبنانية حتى قبل الاستقلال هما طبيعتها الطائفية واقتصادها الحر. واشتدت هاتان السمتان بعد الحرب الأهلية. وهو مسار أيده كل من الجهات السياسية الأساسية الفاعلة في لبنان، والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) عبر تنسيقه في مؤتمرات المساعدة المتعاقبة في باريس (، والمستثمرون الإقليميون) لا سيما دول الخليج (، والجهات الفاعلة الدولية) فرنسا. (وكان التوافق بين هذه الجهات قائما على الحاجة إلى حماية مصالحها السياسية والاقتصادية وتعزيزها.

استفادت النخب اللبنانية من كل الطوائف أكثر من هذه السياسات من خلال مخططات الخصخصة المختلفة والتخصيص الزبائني لعقود الدولة. اعتمدت النخب الحاكمة بدورها على النظام السياسي الطائفي والاقتصاد الليبرالي في البلاد لتوسيع سلطتها.

بقي الاقتصاد السياسي اللبناني ما بعد الحرب الأهلية يتّسم بتنامي عدم المساواة الاجتماعية الاقتصادية. وعكست بنية الودائع المصرفية ذلك: فابتداء من عام 2018، كانت نسبة 0.8 في المئة من الحساب ات24421) حسابًا (تسيطر على 51.8 في المئة من الودائع 85,286) مليارات دولار (، فيما سيطرت نسبة 60.5في المئة من الحسابات (1,749,104) على 0.5 في المئة فحسب من الودائع935 ) مليون دولار. (وإلى ذلك، لم يكن حوالى  44 في المئة من سكان لبنان في عام  2019 يتمتعون بأي تغطية تأمين صحي بحسب مكتب الإحصاء المركزي، فيما لم يتمتع العمال الأجانب المؤقتون ، المقدر عددهم بأكثر من مليون، بالحماية الاجتماعية

على صعيد أشمل، يسجل لبنان أحد أعلى مستويات التفاوت في توزيع الثروة في العالم، وأحد أعلى مستويات تَرُّكز أصحاب المليارات للفرد الواحد. ففي عام 2019، كان أغنى 10 في المئة من البالغين يملكون 70.6 في المئة من ثروة البلد. وفي الوقت نفسه، كان أثرى 10 في المئة من الأغنى في البلد يحصلون على ما يتراوح بين 49 و 54 في المئة من الدخل القومي بين عامي 2005و 2016: فكان المنتمون إلى الطبقة الوسطى الذين تبلغ نسبتهم 40في المئة يتقاضون 34في المئة، وكانت الفئة الأفقر التي تمثل 50  في المئة من السكان )ومن بينهم اللاجئون والعمال المهاجرون الأجانب( تتلقى بين12و14في المئة. وانعكس تَرُّكز السلطة هذا أيضا في تسريب » وثائق باندورا  « حيث وردت أسماء مئات المسؤولين والسياسيين ورجال الأعمال اللبنانيين، من بينهم رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي. فكشفت هذه الوثائق كيف تخفي النخبة المالية الدولية ثروتها في ملاذات ضريبية غامضة في الخارج. وشركات لبنان البالغ عددها 346 هي في الحقيقة العميل الأهم لدى شركة “ترايدنت ترست” المتخصصة في توطين الشركات الخارجية. وعلى سبيل المقارنة، يسبق لبنان بأشواط المملكة المتحدة التي تحتل المرتبة الثانية في هذا الصدد مع 151 شركة. 

النظام المصرفي ركيزة النيوليبرالية اللبنانية

في هذا السياق، مثّل النظام المصرفي الخاص على مدى عقود ركيزة النظام النيوليبرالي اللبناني. تعزز التعاون العميق بين القطاع المصرفي اللبناني الخاص ومصرف لبنان من جهة، والأحزاب السياسية الليبرالية الجديدة الطائفية الحاكمة من جهة أخرى، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. 

عارضت الأحزاب الطائفية النيوليبرالية الحاكمة في البلاد باستمرار أي تحديات كبيرة للنظام المصرفي من أجل الحفاظ على الاقتصاد السياسي للبلاد، وبالتالي هياكل السلطة التي تمكنها من الهيمنة. يستفيد الفاعلون الطائفيون والنيوليبراليون الحاكمون بالفعل من هذه المؤسسات المصرفية، وتوجد أمثلة عديدة على الروابط الوثيقة بينهم. العديد من السياسيين الحاكمين هم من كبار المساهمين، مثل رئيس الوزراء السابق المعروف سعد الحريري، وهو مساهم رئيسي في بنك البحر المتوسط، أو كأعضاء في مجالس إدارة البنوك، مثل ريا الحسن، وزيرة المالية والداخلية السابقة، في بنك البحر المتوسط. حسب دراسة I’ve got the power للجامعي جاد شعبان، 18 من أصل 20 مصرفاً من كبار المصارف في لبنان تضمّ مساهمين ومدراء ينتمون إلى «عائلات سياسية»، أو هم على صلة بالنخب السياسية ومقرّبين منها. ويسيطر هؤلاء على 43% من أصول تلك المصارف وتسيطر ثماني «عائلات سياسية» على 32% من الأصول أي على 7,3 مليارات دولار (حسب أرقام العام 2014).

تمت الإشارة إلى الشراكة بين الطبقة الحاكمة والبنوك من قبل قطاعات كبيرة من الحركات الاحتجاجية اللبنانية عند اندلاعها في تشرين الأول 2019. فقد هاجمت مجموعات من المتظاهرين بالفعل مؤسسات مصرفية مختلفة ونهبت مكاتبها وفروعها في مختلف مناطق البلاد.

سعى المتظاهرون والناشطون السياسيون لهذه الإجراءات للتنديد بدورهم ومسؤوليتهم في الأزمة الاقتصادية وللسماح لقطاعات من كبار الممولين بتهريب أموالهم إلى خارج لبنان في بداية الانهيار المالي.

وبين عامي1993 و2019، سددت الدولة اللبنانية 87مليار دولار كفوائد للمصارف. و إبان هذه الفترة، ارتفع الدين العام من 4.2  ٕإلى 92 مليار دولار، وهو ارتفاع فاقت نسبته 2000 في المئة، فيما توسعت أصول المصارف بنسبة فاقت 1300 في المئة) محققةً مجموع 248.88 مليار دولار (، وازداد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة لا تزيد عن 370 في المئة. وبالإضافة إلى ذلك، تفاقمت الأرباح الصافية للمصارف الخاصة بشكل كبير من 63 مليون دولار إلى ملياري دولار بين عامي 1993 و 2018، وهي زيادة بلغت 3000 في المئة. 

انتهى مخطط بونزي الذي تديره البنوك اللبنانية  بأزمة 2019. منذ ذلك الحين، يعاني المودعون في البلاد من قيود مصرفية أحادية وغير قانونية على عمليات سحبهم وتحويلاتهم، بالإضافة إلى التخفيض الهائل لقيمة الليرة اللبنانية بأكثر من 98٪ منذ انهيار النظام المالي.

وقد أدى ذلك إلى إجبار العديد من المودعين على الالتزام بـ “تخفيضات” كبيرة لقيمة ودائعهم إذا أرادوا الحصول على أجزاء منها. وقد استمر هذا الوضع بموافقة وتعاون كاملين من سلطات الدولة اللبنانية.

بعد تخلف البلاد عن سداد ديونها السيادية في آذار 2020، سعت الأحزاب الطائفية النيوليبرالية الحاكمة باستمرار إلى حماية النظام المصرفي اللبناني. وتحتفظ البنوك ومصرف لبنان اللبناني بشرائح كبيرة من الدين المقوم بالليرة اللبنانية. لا تزال الغالبية العظمى من البنوك الخاصة ومصرف لبنان ترفض، بدعم من الطبقة السياسية الحاكمة، أي مسؤولية عن جميع الخسائر المنسوبة إليها. في الوقت نفسه، أعاقت الأحزاب الطائفية النيوليبرالية الرئيسية أي مساءلة حقيقية عن عمليات البنوك والسياسيين المرتبطين بها.

تهدف معارضة الطبقة الحاكمة الطائفية لأي إجراءات تتحدى سلطة القطاع المصرفي ومصرف لبنان وأي جهود للمساءلة إلى حماية أنماط تراكم رأس المال والركيزة الأساسية للنظام النيوليبرالي في لبنان.

لا محاسبة 

وبالمثل، يواجه رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، والذي يعتبر أحد الفاعلين الرئيسيين المسؤولين عن الأزمة المالية التي ابتليت بها البلاد منذ عام 2019، مزاعم بارتكاب جرائم منها الاختلاس وغسيل الأموال والتهرب الضريبي في تحقيقات منفصلة في لبنان، وأوروبا. في أيار 2023، أصدر المدعون الفرنسيون مذكرة توقيف دولية بحق سلامة بتهمة الفساد والتزوير وغسيل الأموال والاختلاس. بعد ذلك، تلقى لبنان إخطارًا أحمر من الإنتربول بحق سلامة، بالإضافة إلى إبلاغه من ألمانيا بمذكرة توقيف بحقه بتهمة “الفساد والتزوير وغسيل الأموال والاختلاس”. ولا يزال سلامة، على الرغم من الاتهامات بارتكاب جرائم متعددة، يتولى منصب حاكم، وهو أيضًا رئيس لجنة التحقيق الخاصة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب. كل هذا كان بسبب الدعم والحماية الذي قدمته قطاعات كبيرة من الطبقة الحاكمة اللبنانية.

لا بد من القول إن رياض سلامة ليس حالة منعزلة. وقد تدخلت النخبة الحاكمة اللبنانية في مناسبات عديدة لشل عمل القضاء من أجل حماية مصالحها السياسية ومنع أي محاسبة على جرائمها. حتى القضاء اللبناني ليس مستقلاً حيث تمارس النخبة السياسية الحاكمة نفوذاً كبيراً على التعيينات القضائية، والولاية القضائية، والعمليات، والقرارات المتعلقة بالفساد. ومن الأمثلة البارزة على ذلك المحاولات المستمرة لدفن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة 220 شخصًا ودمر مساحات شاسعة من المدينة. التحقيق لم يكن قادرا على المضي قدما أو تجريم مسؤول واحد. علاوة على ذلك، تم اغتيال العديد من الشهود المحتملين.

ما السبيل للخروج من الأزمة

أدى اندلاع الأزمة المالية في تشرين الأول 2019 إلى تعزيز القيود الاقتصادية في لبنان، في حين تضاءل زخم تشرين الأول 2019، ويركز العديد من اللبنانيين الآن على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وقعت بيروت اتفاقية مع صندوق النقد الدولي في نيسان 2022، لكن لم يتم تنفيذ تقدمها نحو الإصلاحات المالية المطلوبة لإطلاق تمويل بقيمة 3 مليارات دولار. ومع ذلك، لن تعالج الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي المشاكل الجذرية في جوهر الأزمة اللبنانية: اقتصاد نيوليبرالي مرتبط بشكل وثيق بالطبيعة المالية الشديدة للاقتصاد السياسي للبلاد، والاعتماد على مصادر التمويل الأجنبية (الاستثمار الأجنبي المباشر والتحويلات) وتهميش قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة. أصبحت الخدمات تشكل 78.85 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2019، فيما شكل التصنيع 5.6في المئة و الزراعة3 في المئة منهوانعكس أيضا ضعف القطاعين الإنتاجيين هذا في الاعتماد على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية وتحويلات المغتربين اللبنانيين. وتَرّكَز معظم الاستثمار الأجنبي المباشر في الاستثمار العقاري والمرتبط بالسياحة على مدى العقدين الماضيين. 

أتى أحد المصادر المهمة الأخرى لرأس المال الأجنبي من المغتربين اللبنانيين، إذ شكلت التحويلات ما معدله 15 و20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في أثناء العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وبقيت التحويلات على مر السنوات ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني، فبلغ التدفق سنويًا منذ عام 2008 معدلا يقارب 7 مليارات دولار، وشّكل بأعلى مستوياته24.66 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام . 2008وبين عامي 2005 و2015، جذب لبنان زهاء 94 مليار دولار من رؤوس الأموال. واستُخدم نحو72ملياًرا من هذه الأموال، وهو مبلغ يمثل 70 في المئة من المبلغ الإجمالي، لشراء العقارات والمنتجات الاستهلاكية المستوردة، بينما وضع ُ نحو 22 مليارا في المصارف، لا سيما من أجل تمويل دين الدولة. 

يجب أن تسعى أي خطة إنعاش اقتصادي مستقبلية إلى تنويع الاقتصاد، لا سيما بتعزيز قطاعي التصنيع والزراعة اللذين يمكن أن يكونا عناصر أساسية في استقرار الاقتصاد والبلد بشكل عام. سيعزز الإنتاج المحلي، ويخفض الأسعار بشكل عام، ويخلق فرص عمل، مع الحد من المزايا الريعية للاقتصاد اللبناني. هناك بالطبع أيضًا حاجة لتحدي سلطة البنوك، ووجود برنامج لتأميم البنوك للسماح ببرنامج سياسي يخدم احتياجات الاقتصاد المنتج وخلق فرص العمل بدلاً من خدمة الاقتصاد الريعي.

علاوة على ذلك، هناك حاجة إلى تحد سياسي تقدمي يعارض النظام السياسي الليبرالي الجديد والطائفي. تمكنت الأحزاب الطائفية النيوليبرالية المتنوعة، على مستويات مختلفة، من الحفاظ على هيمنتها على مجتمعاتها الدينية من خلال آليات مختلفة، سواء باستخدام الموافقة أو العنف، من أجل ربط مصالح الطبقات الشعبية بهياكلها الحزبية ومصالحها. لقد عملوا باستمرار، على الرغم من تنافسهم، على منع بناء وتدعيم أي شكل من أشكال البديل الاجتماعي أو السياسي أثناء فترات الانتخابات وخارجها، وخاصة فيما يتعلق بالحركات العمالية والقوى البروليتارية الأخرى.

إن الطبيعة الطائفية للدولة، مصحوبة بترويج السياسات النيوليبرالية، هي عقبة أمام ظهور بديل الطبقة العاملة من أسفل، القادر على تحدي الأحزاب البرجوازية الطائفية الحاكمة.

كان الغياب المستمر للمنظمات والأحزاب الجماهيرية غير الطائفية المتجذرة في الطبقات الشعبية في البلاد هو المشكلة الرئيسية في الحركة الاحتجاجية في انتفاضة 2019، ولا تزال كذلك إلى حد كبير. فهي غير موجودة حتى الآن، وهذا يضعف قدرة الحركة على التماسك في تحد اجتماعي وسياسي للأحزاب الطائفية النيوليبرالية ونظامها. قطاعات اليسار والقوى التقدمية المختلفة مجزأة للغاية ولم تتمكن من بناء جبهة موحدة قادرة على توجيه المطالب وتنظيم المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، يطرح ضعف الهياكل النقابية مشكلة متكررة. ساهمت الأحزاب الطائفية بفاعلية في إضعاف الحركة النقابية منذ التسعينيات. إن ضعف منظمات الطبقة العاملة هو مأزق دائم وهو في الواقع ليس من قبيل الصدفة. تدخلت الأحزاب الطائفية النيوليبرالية بنشاط في الحركة العمالية منذ تسعينيات القرن الماضي، وقسمتها إلى اتحادات ونقابات طائفية منفصلة في العديد من القطاعات. كان هدفهم إضعاف الاتحاد العمالي العام في لبنان. نتيجة لذلك، لم يتمكن هذا الاتحاد من تنظيم العمال وتعبئتهم على الرغم من السياسات النيوليبرالية المكثفة.

نفذوا استراتيجية مماثلة ضد هيئة التنسيق النقابية، التي قادت الاحتجاجات العمالية بين عامي 2011 و 2014. واتحدوا في انتخابات كانون الأول 2015 ضد النقابي المقاتل حنا غريب، الذي تمكن فقط من الحصول على دعم من المستقلين والحزب الشيوعي. لقد تضاءل تأثير هيئة التنسيق النقابية منذ ذلك الحين. و غابت كلا المؤسستين تماما منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في تشرين الأول 2019. في هذا السياق السياسي، وسط أزمة اقتصادية عميقة وغياب أي بديل سياسي قابل للتطبيق، ستكون الأحزاب الطائفية قادرة على تعبئة قواعدها المذهبية والحفاظ على هيمنتها على البلاد.

هناك ضرورة لبناء مشروع حقيقي مضاد للهيمنة، متجذر في الطبقات العاملة في البلاد، وفي تحالف مع قوى اجتماعية مستقلة مثل النقابات العمالية والمنظمات النسوية والمناهضة للعنصرية. في النهاية، الضغط من الأسفل من خلال التعبئة الجماهيرية هو السبيل الوحيد للتغيير الجذري والخروج من هذه المأساة.

 بقلم/  جوزيف ضاهر

مقال نشر ضمن العدد الأول من مجلة أصوات الكوكب الأخرى باللغة العربية التي تصدرها الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية (CADTM).

رابط تحميل العدد الأول من مجلة أصوات الكوكب الأخرى: هنا