ساهمت الديون الخارجية في بناء نَوَاة “الدولة الوطنية الحديثة” التونسية بعد الاستقلال، حيث كانت عنصرًا أساسيًا في تمويل الحصول على التجهيزات اللازمة لإنشاء المؤسسات العمومية الجديدة مثل مصنع السُكَّر (1960) والشركة التونسية لصناعات التكرير (1961) ومصنع الفولاذ (1965) والشركة الوطنية لورق الحَلفاء (1968) وغيرهم من المنشآت العمومية التي أُنشئت كلُّها في سياق انتهاج سياسات إحلال الواردات.

كما ساهمت تلك المديونية الخارجية في القيام بإنجاز البِنيَة التحتية اللازمة، والاستثمار في بناء مرفق عمومي يُقدِّم الخدمات الأساسية للسُكان، من صحة وتعليم ونقل وغيرهم، إلَّا أن تلك الأموال المُتدفِقة إلى تونس من قِبَل مؤسسات التمويل وبنوك الدول الغربية، أتَتْ في إطار اتفاق مغشوش مضمونه: نوفر لكم العُملة الصعبة (الدولار أساسًا) لإقراضكم وإعادة تمويل ديونكم إلى ما لا نهاية ونستورد بضائعكم، في المقابل تُوفرون لنا المواد الأساسية وتبقون في معسكر الغرب.

ظلَّ هذا الاتفاق ساريًا، حتى قررت بُلدان الشمال خرقه وأوقفوا التمويل، ما تسبَّب في اندلاع أزمة الديون في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات (أو بالأحرى أزمة موازين المدفوعات)[1] بعد أن جفَّت منابع التمويل، وفضَّلت رؤوس الأموال الذهاب إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية، حيث بلغت معدلات أسعار الفائدة أرقامًا قياسية. 

 ومنذ عام 1979 صار الدَّين الصافي للدولة التونسية سلبيًا إلى أن تأزَّمت الأمور خلال عامي 1985-1986، حينها فُرِض على تونس- كما على سائر بُلدان الجنوب- اتباع ما سُمِّي بـ”برامج التعديل الهيكلي”، لتبدأ الحكومة في عام 1986 تطبيق هذا البرنامج بآلياته التي أفضت إلى الانكماش المالي وتحجيم دور الدولة في الاقتصاد.

وعليه، تحوَّل تعامُل الدولة التونسية مع الديون من أداة لتحقيق “التنمية” و”اللحاق بركب الدول المتقدمة” إلى وسيلة لسداد الديون السابقة، ومنذ كان معدل التداين الصافي يُقدَّر بـ (-3,81%) في الفترة ما بين عام 1979 وعام 1986، ويعود سبب النسبة السلبية هذه إلى شُح موارد التمويل من السوق العالمية، ليصبح ذلك المعدل يقدَّر بـ (-10,1%) لاحقًا، وكان مردُّ ذلك أساسًا إلى انتهاج سياسة التقشُّف وتكريس الدولة التونسية- منذ ذلك الحين- ما تيسر من مواردها من العُملة الصعبة لسداد الدَّين. 

وتبقى عملية التفويت في ثلث شركات الاتصالات التونسية لرأس المال الأجنبي خير مُعبِّر عن ذلك، فقد كانا العامان اللذان أعقبا عملية التفويت، هما الفترة التي حققت فيهما الدولة التونسية أرقامًا قياسية في التداين السلبي (-15% عام 2006، و-9% عام 2007)، أي في تسديد الديون. 

هذا ما كان عليه الوضع قبل ثورة 2011، وهو من أول مسبباتها بما أن الدولة أُجبِرَت على انتهاج سياسة تقشُّف عنيفة، في فترة زين العابدين بن علي، أدت إلى تدهور الحالة الاجتماعية واستفحال حالة الهشاشة بين التونسيين\ات، وكان من المتوقع أن تأتي الثورة بتغييرات جوهرية في سياسات الدولة، بخاصة سياسات التداين وتعاملها مع المديونية الحاصلة في تلك الفترة، إلَّا أن حكومات ما بعد الثورة بقيت في نفس قالب “الإصلاحات” المُملاة عليها من الغرب، على الرغم من وجود مرحلة قصيرة تمتد إلى سنتين تم خلالهما التراجع عن سياسات التقشُّف، بسبب موازين القوى المُختلة أمام المد الشعبي والاحتجاجات الاجتماعية المُطالِبة بتحسين ظروف العيش.

1– حركة عكسية في المؤشرات… 

أول ما تميزت به حركة المديونية الخارجية بعد الثورة هو عودة منحنيات الاقتراض نحو التصاعد، فانطلاقًا من عام 2012، عادت مؤشرات التداين الخارجي الصافي للإيجابية بصفة متواصلة حتى عام 2019 ووصلت حتى معدلات لم تشهدها منذ الستينيات، حيث بلغ معدل التداين الخارجي الصافي بين 2014 و2018 نحو 12%. 

لكن هل تعني هذه المؤشرات بأن الدولة التونسية تخلَّت أخيرًا عن سياسات التقشُّف وعادت إلى سياسات الاستثمار العمومي التي عرفتها خلال الستينيات من القرن الماضي وبعض سنوات السبعينيات؟ نقرأ الإجابة في نِسَب الاستثمار لهذه الفترة: بينما كان معدل نسبة نفقات الاستثمار من مجموع نفقات الميزانية خلال العَشرية التي سبقت الثورة يبلغ 22,5%، فإن هذا المعدل قد انخفض بأكثر من أربع نقاط مئوية إلى نحو 18,25% في العَشرية الموالية، أي أن الدولة لم تتخل عن سياسة التقشُّف ولم تسترجع دورها الاستثماري في هاته الفترة، بل عمَّقت السياسات المُتَّبعة قبل الثورة.

ولنغلق الباب من الآن أمام من سيقول إنَّ الدولة التونسية تداينت من أجل توزيع الأجور، إذ لم تتجاوز نفقات تسيير الدولة التونسية حجم مواردها الذاتية بتاتًا خلال العَشرية التي تلت الثورة [2]، لكن ما حصل هو أن الحكومة حاولت بقدر الإمكان امتصاص الغضب الشعبي دون المساس بجوهر السياسات الليبرالية المفروضة عليها. 

فقد قامت بحملة انتدابات واسعة بين عامي 2011 و2013 ارتفع خلالهما عدد الموظفين من 445 ألفًا إلى 590 ألفًا ذهب أغلبها إلى وزارتي الداخلية والدفاع [3]؛  أي أن جزءًا هامًا من الانتدابات التي صارت خلال تلك الفترة كان هدفها الأساسي إخماد شرارة الثورة، لمواصلة انتهاج نفس السياسات.

لكنَّ هذا لا يجيبنا عن سؤال: لماذا ارتفعت فجأة نِسَب التداين الخارجي للدولة التونسية؟ فهذه الديون لم تذهب سدادًا للأجور ولم تذهب استثمارًا، بل ذهبت فقط لتعويض الخسارة الحاصلة في ميزانية الاستثمار جرَّاء انخفاض الفائض في ميزانية التسيير الذي يذهب عادة إلى ميزانية الاستثمار. 

ونلاحظ هنا أن المصاريف الإضافية التي ذهبت في انتداب أعوان الأمن وفي الامتصاص الوقتي للغضب الشعبي كانت يمكن أن تذهب كاستثمارات في الخدمات العمومية وتعزيز لدور المؤسسات العمومية، إلَّا أن هناك حقيقة لا تُمحي من منشورات صندوق النقد الدولي: “دولة الإصلاحات الهيكلية لا تستثمر، دولة الإصلاحات الهيكلية تترك مكانها للمستثمرين الخواص ولحركة السوق لتحقق الرَفاه.. الرفاه للأقلية والهشاشة للبقية”. 

في الوقت نفسه نحن نعلم أن المصاريف الحكومية هي أساسًا مصاريف بالعُملة المحلية (الدينار)، فهي تنقسم بين أجور ومصاريف تسيير للإدارات وتحويلات للمؤسسات العمومية وغيرها، إذن لا مبرر للاقتراض الخارجي لتغطية المصاريف الإضافية التي شهدتها الدولة بعد الثورة، فما الذي يدفع الدولة إلى اقتراض خارجي بهذا الحجم الذي عرفته في العَشرية التي تلت الثورة؟

2- لصالح من؟

ما ننساه أحيانًا أن جوهر الفكر النيوليبرالي ليس تراجع الدولة ورفع يدها عن الاقتصاد، بل العكس تمامًا: إنَّ جوهر الفكر النيوليبرالي هو تدخُّل الدولة لتخدم مصالح السوق، ومصالح السوق بالنسبة لدولة من دول الجنوب هو الحفاظ على طبيعة الاقتصاد التابعة للشمال والحفاظ على مصالح المستثمرين الأجانب بتمكينهم من العُملة الصعبة اللازمة لتحويل أرباحهم إلى الخارج، وتمكين بارونات التوريد “الكمبرادور” من مراكمة الثروات من خلال توريد شتَّى البضائع الاستهلاكية من الخارج وبيعها في الأسواق المحلية. 

أي في كلمة: يجب على الدولة أن توفر العُملة الصعبة اللازمة لكي يتواصل هذا النظام الاقتصادي التابع، وديدنها في هذا الأمر التعديل المتواصل لميزان المدفوعات للحفاظ على مخزون العُملة الصعبة.

يُعَدُ الميزان التجاري أحد المكونات الأساسية لميزان المدفوعات، وقد شهد الميزان التجاري في تونس بداية اختلال منذ الأزمة العالمية التي اندلعت عام 2008، ومنذ ذلك الحين بدأت نسبة تغطية الواردات بالصادرات تتراجع من نِسَب كانت تصل إلى 84% إلى نِسَب أقل حتى من 70%، كما تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر انطلاقًا من عام 2009 من معدلات تفوق الـ3 مليار دينار (بسعر الدينار لعام 2010) إلى أقل من نصفها، حيث صارت تُراوِح مبالغ الاستثمار الأجنبي المباشر مبلغ مليار و500 مليون دينار في السنوات التي تلت الثورة. 

كما شهدت مداخيل السياحة نفس التراجع من معدلات تفوق مبلغ 3 مليار و500 مليون دينار قبل الثورة إلى أرقام بقيت جيدة نوعًا ما بين 2012 و2014، لكن سُرعان ما انخفضت تحت معدلات 2 مليار دينار بعدها، خصوصًا بعد الضربات الإرهابية التي شهدتها البلاد في عام 2015.

إذن مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثَّرت على الصادرات التونسية، وأثَّرت كذلك على الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي كانت تتدفق على البلاد، ومع الوضع المتأزم في بُلدان الجوار، بخاصة في ليبيا التي كانت من أكثر البُلدان قِبلَة للصادرات التونسية قبل الثورة، زادت حاجة الدولة التونسية إلى الحصول على العُملة الصعبة عبر الاقتراض الخارجي، وكانت الفرصة مناسبة إذن بالنسبة إلى صندوق النقد والبنك الدوليين لفرض مزيد من “الإصلاحات”، كما كانت فرصة لبُلدان أوروبا، لكي تحاول فرض مزيد من الاتفاقات التجارية غير المتكافئة، كما فُتِح لهم الباب للتأثير على قوانين الاستثمار، بخاصة في مجالات الطاقة المتجددة عبر المخطط الشمسي التونسي، مثلًا. 

3- اتّفاقات مع الصندوق… وإملاءات

كانت الفرصة مواتية إذن بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي لفرض مزيد من الإملاءات على الحكومات التونسية المتعاقبة خلال السنوات التي تلت الثورة، وقد وقَّعت الدولة اتفاقين مع صندوق النقد الدولي، كان الأول عام 2013 والثاني عام 2016، ومن المعروف أن الحصول على اتفاق مع صندوق النقد الدولي هو بمثابة الضوء الأخضر للأسواق المالية والممولين الدوليين لتسهيل عمليات تمويل الدولة المُوقِعة على الاتفاق، لكن الدولة المَعنِيَّة تدفع دائمًا ثمن ذلك “إصلاحات” و”إجراءات مُوجِعة” يتكبدها الشعب.

بالنسبة إلى تونس، فإن هذه الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي أسفرت عن عدة تداعيات، أولها الرفع التدريجي للدعم عن المحروقات، ما أدى إلى ارتفاع سعر البنزين دون رصاص، مثلًا من 1,370 دينارًا في 2011 إلى 2,525 دينارًا اليوم، أي ارتفاع بنسبة 84%، على الرغم من أنه في نفس الفترة قد انخفض سعر البرميل بنحو 100 دولار في 2011 إلى أقل من 80 دولارًا اليوم [4]،هذا الارتفاع في سعر البنزين كان من الأسباب الأولى في تزايد نِسَب التضخم في تونس.  

كذلك من تداعيات هاته الاتفاقات، العودة إلى سياسات التقشُّف بطريقة أكثر عنفًا وتشددًا من المرحلة السابقة، فمن 2013 حتى 2023، بلغ المعدل السنوي لتطور الموظفين نسبة 1,27%، وهي نسبة أقل حتى من المعدل السنوي بين عامي 1986 و2010 (أي فترة الإصلاح الهيكلي تحت حكم زين العابدين بن علي) والتي كانت تبلغ 2,38%.

هذا التضييق على الانتدابات في الوظيفة العمومية كالعادة لم يطُلْ سوى الوظائف الأساسية من أطباء وأساتذة، وبصفة عامة مِهن الرعاية، لكن التقشُّف لم يطُلْ وزارة الداخلية التي حافظت ميزانيتها على تطور مُطرد حتى في أحلك الفترات (تطور بـ18,5% عام 2021 و10% عام 2022).

كما تسبَّبت إملاءات الصندوق في تقليص الموارد الضريبية للدولة عبر تخفيض الضريبة على الشركات في ميزانية عام 2015، وهي الميزانية التي وضعتها حكومة التكنوقراط الانتقالية بقيادة السيد مهدي جمعة، وتحت إشراف وزير المالية، المحسوب على قوى اليسار، حكيم بن حمودة، إذ جرى تخفيض الضريبة على الشركات من 30% إلى 25% ومنحها العديد الامتيازات الضريبية والتي يصل أثرها حدَّ التقليص بنسبة 60% من القاعدة الضريبية [5]. 

ومنذ عام 2014، نلاحظ أن مداخيل الضريبة على الشركات، والتي كانت متوازية مع الضريبة على الأشخاص، شهدت تقلُّصًا كبيرًا إلى أن صارت الضريبة على الشركات لا تمثل عام 2021 سوى ثلث مداخيل الضريبة على الأشخاص.

استقلالية البنك المركزي: القشة التي تقسم ظهر البعير

لكن أكبر مكسب بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي في علاقته بالدولة التونسية، هو أنه فرض عليها مبدأ استقلالية البنك المركزي، واستقلالية البنوك المركزية هي في جوهر مطالب الصندوق- بما أن المثال النظري للإصلاحات التي يُمليها على دول الجنوب هو مثال نقدوي- (Monétaire) حجر الأساس فيه هو الانكماش المالي، أي التقليص في الكتلة النقدية عبر التقليص في القروض التي تُسديها البنوك التجارية لمجمل المتعاملين في الاقتصاد. 

كما أن مطلب التخفيض في سعر الصرف هو كذلك من المطالب الأساسية للإمبريالية، حيث إنَّ سعر العُملة المحلية المنخفض يؤدي إلى انخفاض “كُلفة العمل” بالنسبة إلى المستثمر الأجنبي، وكذلك انخفاض سعر السلع الزراعية والمائية والمَنجمية، ما يعني امتصاص أكبر قيمة مضافة ممكنة من بُلدان الجنوب، وتكريس علاقات التبادل غير المتكافئ بينها وبين دول الشمال، وكان للصندوق ما أراد، حيث مرَّر المشرع التونسي قانونًا أساسيًا جديدًا ينظم عمل البنك المركزي في أوائل عام 2016.

ومن أول مخلفات هذا القانون هو تدهور العُملة التونسية التي فقدت 50% من قيمتها في غضون سنتين، بما أن التنظيم الجديد للبنك المركزي صار يمنعه من التدخل في سوق الصرف، ما فتح الأبواب على مصراعيها للبنوك لتضارب في سوق الصرف على العُملة التونسية. 

وعلى الرغم من أن نزول سعر الصرف لم يؤثر في مبلغ الديون الخارجية للدولة التونسية، إلَّا أنه أثَّر في محاسبات الدولة والمؤسسات العمومية بما أنها تُحتسب بالدينار التونسي، وعليه، فقد أدى نزول سعر الصرف إلى صعود المديونية الخارجية للدولة التونسية من نسبة 33% من الناتج المحلي الخام عام 2015 إلى 53% عام 2018.

نسبة المديونية من الناتج المحلّي الإجمالي [6]

وقد كان نزول سعر الصرف سببًا أساسيًا في تفاقم المديونية باعتراف وزارة المالية في منشوراتها، حيث نقرأ في التقرير حول الدَّين العمومي التي أصدرته عام 2023 أن نزول سعر الصرف ساهم في ارتفاع المديونية في تونس بمبلغ قدره 18746 مليون دينار [7] بين سنتي 2015 و2018.

عوامل تراكم قائم الدين العمومي [8]

كل هذا ساهم ميكانيكيًا في ارتفاع خدمة الدَّين العمومي الخارجي الذي مرَّ من معدلات أقل من 8% قبل عام 2016 إلى معدلات تتجاوز نسبة 13% بعدها، الأمر الذي أدى إلى ضغط على ميزانية الدولة، وبالأخص على المصاريف الموجهة للخدمات العمومية الأساسية مثل الصحة، وهو ما واجه الشعب التونسي نتائجه مباشرة خلال جائحة كورونا.

الارتفاع الكبير في المديونية لم يطُل فقط حسابات الدولة، بل طال كذلك المؤسسات العمومية، وكان من أكبر أسباب الأزمة التي تعيشها هاته المؤسسات حاليًا والمتسببة في الانقطاعات في المواد الأساسية والبنزين والأدوية بشكل أساسي. 

نقرأ ذلك في تقرير أنجزته الباحثة إيمان اللواتي حول صندوق النقد الدولي وآثار تخفيض سعر الصرف على المنشآت العمومية [9]، ويكفي لنستشف هاته الآثار الكارثية أن نرى أرقام الصيدلية المركزية التونسية، وهي الهيكل العمومي المُكلَّف بشراء الأدوية وتوزيعها في السوق الداخلية.

فقد أثَّر تخفيض سعر الصرف على النتائج الصافية للصيدلية المركزية وحولت حساباتها الصافية من رابحة عام 2017 (+144 مليون دينار) إلى خاسرة عام 2018 (-234 مليون دينار) وارتفعت ديونها لدى مزوديها بـ75% من عام 2015 إلى عام 2017 لتصل إلى مليار و100 مليون دينار، بما أن 80% من شراءات الصيدلية المركزية هي شراء أدوية من الخارج بالعُملة الصعبة. هذا دون اعتبار امتناع الدولة عن القيام بالتحويلات المالية اللازمة للمؤسسة للقيام بدورها على ما يجب بتوفير الأدوية بأسعار في متناول المواطن البسيط، وكان هذا منذ عام 2014 واتفاقات حكومة التكنوقراط مع صندوق النقد الدولي.

ما العمل اليوم؟

يواصل صندوق النقد الدولي اليوم هجمته على بُلدان الجنوب بصفة عامة، وللدولة التونسية نصيبها من آثار هذه الهجمة، فقد تركت الجائحة مُخلَّفات كبيرة على اقتصادات دول الجنوب وأنهكت مجتمعاتها وأفرغت مخزوناتها من العُملة الصعبة. 

في هذا السياق، ومنذ عام 2021، تحاول الحكومات التونسية إيجاد اتفاق مع صندوق النقد الدولي يفتح لها باب التمويل الخارجي، بخاصة بعد أن قامت مؤسسات الترقيم بدورها في الهجمة المُضاربية على الديون التونسية بتخفيض الترقيم السيادي للدين التونسي. 

وعليه قامت الحكومات منذ عام 2021 باستباق رغبات الصندوق في تحجيم كتلة الأجور، بخاصة في الضغط على نفقات الدعم، كانت نتيجته عدة انقطاعات في المواد الأساسية [10]، وقد أدى هذا أخيرًا إلى الحصول على اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء في أكتوبر من عام 2022، إلَّا أن هذا الاتفاق بحاجة- في نظر الصندوق- إلى الدعم السياسي المتمثل في الموافقة الصريحة للرئيس قيس سعيد والالتزام بنقطتين أساسيتين، أولهما: التقدُّم بوضوح في إلغاء سياسة الدعم وتعويضه بالتحويلات المباشرة، وثانيهما: إصدار قانون حول المنشآت العمومية بهدف تسهيل خصخصتها أو دخول المستثمرين الخواص في رأس مالها.

حتى اليوم، فإن السلطة السياسية تبدو رافضة للانصياع لهذا الاتفاق، خصوصًا أن للدولة التونسية تاريخ من الاحتجاجات الاجتماعية بسبب إلغاء الدعم (ثورة الخبز نهاية 1983 وبداية 1984) وهو سيناريو تخشى السلطة أن يُعيد نفسه مرة أخرى، وتبدو كذلك السلطة اليوم بصدد مساومة دول الشمال- بخاصة إيطاليا- بملف الهجرة، لكي تكسب دعمها في ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لكن تبقى هذه السياسة لا أُفقَ لها، لأنها مرتبطة بتواجد حكومة يَمِينية مُتطرِّفة في إيطاليا، وإن كانت للدولة التونسية مصلحة موضوعية ظرفية في تواجدها فإنها لا تنفي أن هاته المفاوضات معها تُبْنَى اليوم على أُسس أفكار عنصرية من جانب الحكومة الإيطالية. 

لكن تبقى هذه سياسة لا أفق لها خاصّة أنّها مرتبطة بتواجد حكومة يمينية متطرّفة في إيطاليا، وإن كانت للدولة التونسية مصلحة موضوعية ظرفية في تواجدها فإنّها لا تنفي أنّ هاته المفاوضات معها تُبنى اليوم على أسس أفكار عنصرية من جانب الحكومة الإيطالية. 

ويبقى الحلُ دائما وأبدًا في بناء استراتيجية تصل بنا نحو إلغاء الديون الخارجية مهما كان نوعها، فكلُّها ديون استعمارية وكلُّها أتت في سياق محاولات اللحاق بالغرب، بعد أن خلَّف الاستعمار حالةً من الدمار الشامل وإلحاقًا قصريًا بأنماط العيش الحديثة، كما أن كل الممولين استفادوا من حالة التبادل غير المتكافئ التي فرضها الشمال على بُلدان الجنوب، لتسهيل امتصاص فائض القيمة.

هذه الاستراتيجية لا يمكن إلاّ أن تكون في إطار بناء تحالفات جنوب-جنوب وتبّنٍ لإطار جديد لنظام نقدي عالمي [11] بديل يخرجنا من حالة دولرة المبادلات العالمية.

بقلم: وليد بسباس / تونس

______

الهوامش:

1- 65 سؤال وجواب بشأن الديون وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، داميان ميه وإيريك توسان. منشورات آطاك المغرب وCADTM. 

2- تتمثل نفقات التسيير في نفقات الأجور ونفقات تسيير الإدارات ونفقات تحويلات صندوق التعويض (أي ما يُعرف بنفقات الدعم).

3- لا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد موظفي هاتين الوزارتين خصوصا قبل سنة 2021. لكن نقرأ في إصدار معهد الإحصاء الوطني حول خصائص أعوان الوظيفة العمومية أنّ عدد الموظفين في خانة “وزارات أخرى” (تندرج ضمنهم وزارات الداخلية والدفاع) ارتفع من 91 ألفا سنة 2010 إلى 186 ألفا سنة 2014، هذا دون ذكر الارتفاع الصاروخي في ميزانية وزارة الداخلية بنسبة 51% من سنة 2011 إلى سنة 2012. 

 4- أنظر.ي مثلا هنا  

5-  La justice fiscale en Tunisie, un vaccin contre l’austérité, Oxfam, 2020.

6-  التقرير حول الدين العمومي، إصدارات وزارة المالية التونسية، 2023.

7- 3963 م.د. سنة 2016 و5345 م.د. سنة 2017 و9465 م.د. سنة 2018

8-  التقرير حول الدين العمومي، وزارة المالية التونسية، 2023.

9- Louati Imen, FMI: Impact de la dévaluation du Dinar, Observatoire Tunisien de l’économie, 2021.

10-  وليد بسباس، بودكاست الاقتصاد بالسياسة: حمية الجوع من أجل عيون الصندوق. موقع إنحياز، سبتمبر 2022.

11- Système Monétaire International (SMI)