فلسطين: أزمة الغذاء والأرض والمياه في ظل الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني في غزة،
وحلول المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)،
والقوى الإمبريالية، والأنظمة العربية.
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، لم يكن الاحتلال يهدف فقط إلى استبدال السكان بمستوطنين جدد جُلِبوا من مختلف أنحاء العالم، بل كان استعمارًا استيطانيًا شاملًا، حيث سيطر الاحتلال منذ البداية على الموارد الطبيعية، وأقام المستعمرات الصهيونية على أنقاض القرى الفلسطينية المهجّرة، وسيطر على الأرض والمياه حتى يتمكن من توفير الاستدامة للمشروع الإمبريالي الصهيوني.
كما أعلن الرؤساء الأميركيون والغربيون عدة مرات أنه لو لم تكن هناك “إسرائيل”، لقاموا بإيجادها، فالكيان الصهيوني يشكل أداة للقوى الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، في قلب العالم العربي، ويشكل عائقًا أمام وحدته وتقدمه في قضاياه الوطنية والإقليمية والعدالة الاجتماعية لشعوبه.
مثّل قطاع غزة نموذجاً فلسطينياً للنضال والتحدي منذ الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي اللاحق، وقد جرت محاولات متتالية لقمع قواته المقاتلة ضد الظلم والعنصرية واستنزاف الموارد الطبيعية. لقد شهدت غزة عدة حروب أدت إلى مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، في ظل صمت عربي وإسلامي ودولي مطبق، حيث لم يتعرض الاحتلال للإدانة ولم يُدرَج على القوائم السوداء العالمية للدول المنظمة والراعية للإرهاب، بل ولم تُفرَض أي عقوبات عليه، خاصة الاقتصادية والعسكرية، والتي كان من شأنها أن تحد من قدرة آلة القتل لديه.
منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنّ الكيان الصهيوني هجوماً على قطاع غزة، تلك المساحة الجغرافية الصغيرة التي لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، والتي تُعد موطنًا لأكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، حيث يصل عدد الفلسطينيين فيها إلى 2.3 مليون شخص، بينهم نحو مليون طفل. هذه الحرب الدموية التي وصفها خبراء دوليون بجرائم حرب ضد الإنسانية، هي حرب تطهير عرقي ضد كل الشعب الفلسطيني. في اليوم الأول من هذه الحرب، أعلن وزير حرب الاحتلال قطع المياه والغذاء والكهرباء والوقود عن قطاع غزة بأكمله. وهذا ما يُعتبر عقابًا جماعيًا، أي جرائم حرب ضد الإنسانية.
لقد دمر الاحتلال 75% من مساحة قطاع غزة ودمر القطاع الزراعي والأراضي الزراعية المرتبطة به ومصادر المياه وقطاع الصيد. أصبح ثلث مساحة الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام أو الإنتاج. ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد شكّل القطاع الزراعي الفلسطيني في عام 2022 ما نسبته 11% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، ووصلت نسبة الصادرات من قطاع غزة 55% في العام ذاته، وهو ما قيمته 32 مليون دولار. وتشكل منطقة شمال غزة حوالي 33% من المساحة المخصصة لزراعة الخضروات والمحاصيل في القطاع، وتساهم في توفير 30% من احتياجات سكان غزة من الخضروات. ولذلك، قام الاحتلال أثناء حربه على غزة بعزل الشمال عن المناطق الوسطى والجنوبية. كانت غزة تساهم في توفير الخضروات لكامل القطاع وللضفة الغربية أيضًا، ولكن منذ بداية العدوان لم يستطع أحد الوصول إلى أرضه بسبب القصف المستمر، وبالتالي أصبحت الإنتاجية في غزة توازي الصفر وتعرّض قطاع الثروة الحيوانية للتدمير بسبب عدم سماح سلطات الاحتلال بدخول الأعلاف، وكاد قطاع الثروة الحيوانية أن ينهار.
كانت غزة تنتج أكثر من 4 آلاف طن من لحوم الأسماك سنويًا، ولم يعد هذا متوفرًا بعد تدمير الاحتلال 1400 قارب صيد وتدمير ميناء غزة. استُشهِد عشرات الفلسطينيين على الشاطئ أثناء محاولتهم صيد الأسماك. كل هذه الأرقام تقديرات أولية، والأرقام الصادمة ستظهر بعد انتهاء الحرب.
لقد قُدِّرت الخسائر اليومية في القطاع الزراعي بنحو 2 مليون دولار، أي ما يزيد عن 360 مليون دولار حتى تاريخ كتابة هذا المقال (9 أبريل/نيسان). دُمِّرت البنية التحتية الزراعية في مدينة غزة، وخان يونس، وشمال قطاع غزة. وبلغت الخسائر في القطاع الزراعي أكثر من 356 مليون، وهي خسائر مستمرة منذ بداية حرب الاحتلال، وهذا فقط ما تم تدميره من آبار وأنابيب وحقول أشجار، وقد يكون الرقم الحقيقي للخسائر أكبر بعد انتهاء الحرب.
هذا يعني أن الاحتلال تعمد استخدام الغذاء كوسيلة عقاب جماعي وسلاح لتجويع الفلسطينيين وإجبارهم على مغادرة قطاع غزة. والهدف ليس فقط تهجير الفلسطينيين والاستيطان في أماكنهم، وخاصة في منطقة شمال قطاع غزة التي قام الاحتلال بفصلها عن جنوب القطاع، بل هو استمرار لخطة الاحتلال الاستثمارية التي بدأت تتضح معالمها. الهدف هو مشروع قناة بن غوريون، وهي القناة التي ستكون بديلًا لقناة السويس المصرية. وهو مشروع أميركي أوروبي سيراكم الثروات لمصلحة الكيان الصهيوني والدول الإمبريالية إذ تستمر في استنزاف الموارد الفلسطينية وتطويعها لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة.
وقد أشارت الدراسات المنشورة حول حقل الغاز الطبيعي الواقع في المياه الإقليمية لقطاع غزة إلى أن عدة دول أوروبية تحصل على امتيازات من خلال شركاتها العابرة للقارات للبدء بالتنقيب، مما سيوفر الغاز للكيان الصهيوني والدول الأوروبية كبديل للغاز المستورد من مصر وروسيا. ويجدر بالذكر أن هذه العملية قد بدأت بالفعل، وبالتزامن مع الميناء الجديد الذي يديره جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي سيكون الممر الآمن لمنتجات الكيان إلى قبرص ومن ثم إلى الدول الأوروبية والعالم.
من الواضح أن هذا النظام الاستعماري لا يلتفت لأي جانب إنساني في شعوب المنطقة، بل يعمل على نزع إنسانية هذه الشعوب. فلا مشكلة لديه في تجويع مئات الآلاف من الأطفال والنساء في قطاع غزة، ولا مشكلة لديه في حرمان القطاع من الكهرباء والوقود بينما يسرق الاحتلال كل شيء، ليتمتع بتلك الموارد مع أعوانه من الدول الأوروبية والغربية.
في هذا السياق، لم تكتف الأنظمة العربية الرجعية باتخاذ موقف محايد تجاه ما يحدث في غزة من دمار شامل وقتل وتجويع، بل اتخذت أيضًا موقفًا سلبيًا، حيث دعمت الاحتلال بالمنتجات الزراعية مثل تلك التي توفرها دول الخليج عبر الطريق البري الذي يمر من الأردن، وكذلك الدعم عبر السفن والبضائع القادمة من مصر. لقد أوضحت هذه الأنظمة بما لا يدع مجالًا للشك أنها أنظمة رجعية، خاضعة لسياسات البنك الدولي وإملاءات القوى الإمبريالية العظمى، وأنها تحت إمرة الإدارة الأميركية، بالإضافة إلى مشغليها من بعض الدول الأوروبية.
تصحيح وعد بلفور
قبل بضعة أشهر، مرت الذكرى الـ 106 للوعد البريطاني المشؤوم المعروف باسم “وعد بلفور”، والذي منحت بموجبه الحكومة البريطانية لليهود الحق في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
ما لا يعرفه معظم الناس هو أن أغلب النصوص السابقة للنص النهائي لهذا الوعد نصت على تحويل فلسطين إلى دولة لليهود، كما ورد في النسخة ما قبل النهائية من وعد بلفور، والتي أشارت إلى:
“ضرورة إعادة تأسيس فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي”، بناءً على طلب الاتحاد الصهيوني البريطاني. وقد تحوّلت هذه العبارة في النسخة النهائية إلى: “وطن قومي لليهود في فلسطين”؛
مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف المنطقة العربية التي تعاونت مع الاستعمار البريطاني في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية.
اختتم وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (1848-1930) رسالته إلى اللورد البريطاني اليهودي ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937) في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، قائلًا:
“سأكون ممتنًا لو أطلعتم الاتحاد الصهيوني على هذا البيان”، أي وعد بلفور. وكان يرأس الاتحاد الصهيوني البريطاني آنذاك حاييم وايزمان (1874-1952)؛ أول رئيس دولة للكيان الصهيوني في الفترة (1949-1952)، والذي قال بعد وعد بلفور الشهير: “ستكون فلسطين لليهود كما هي بريطانيا للبريطانيين”.
وهذا ما فعله رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عندما قدم خريطة لدولته على كامل الأراضي الفلسطينية، شاملة الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي.
في ذلك الوقت، كان موقف بريطانيا في الدول العربية مشابهًا لموقف الولايات المتحدة اليوم. فالجميع كانوا يسعون لإرضائها، ويخافون من إغضابها، ولا يرفضون طلبها. وإذا تطلّب الأمر، فقد كانوا يوافقون في السر ويرفضون في العلن، مراعاةً لمشاعر المستائين من الناس، كما كانوا ينتظرون دعمها من الغذاء والدواء، والمال والسلاح، والتحديث والتنظيم والتنمية.. أو الطموح إلى الاستقلال داخل الكيان السياسي الذي تَحدَّد بعد اتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا.
لم تتأسس دولة الكيان الصهيوني مباشرة بعد إصدار وعد بلفور. بل استغرق الأمر ثلاثين عامًا حافلةً بالدعم العسكري والسياسي الغربي الواسع، والمجازر العديدة لإجبار الشعب الفلسطيني على ترك أرضه، مع فشل عربي رسمي مخزٍ. وانتهى الأمر بشن القوات الصهيونية حرب النكبة عام 1948 وإعلانها دولة الكيان (إسرائيل)، والتي قوبلت باحتجاجات دبلوماسية وشعبية عربية وإسلامية واسعة النطاق، وتحرّكات عسكرية محدودة.
تكملة وعد بلفور
في الوقت الحالي، تلعب الولايات المتحدة نفس الدور الذي لعبته بريطانيا قبل أكثر من قرن في خدمة الكيان الصهيوني، وتعمل على مساعدته في إنجاز الجزء الثاني من وعد بلفور، الذي لم تعلنه بريطانيا آنذاك، حول ضم الأراضي الفلسطينية إلى دولة الكيان الصهيوني، بدءًا بقطاع غزة، وانتهاءً بالضفة الغربية، في ضوء العديد من المؤشرات والإجراءات المرافقة لهذه الحرب، وأهمها:
- انخراط الولايات المتحدة في هذه الحرب على جميع المستويات، السياسية والعسكرية والدبلوماسية والمالية، جنبًا إلى جنب مع الكيان الصهيوني، وإشرافها على إدارتها في كل هذه المجالات، وهو ما لم يحدث من قبل، كما تهديدها جميع دول المنطقة بعواقب الدخول فيها.
- تبرير الولايات المتحدة جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الكيان الصهيوني، ومشاركتها في التخطيط والإدارة وتوفير المعلومات، وإصرارها على عدم وقف الحرب حتى القضاء الكامل على حركة “حماس”، وغض النظر عن كل الانتهاكات الحاصلة التي تخالف القانون الدولي والإنساني.
- ترتيب فتح ممر إنساني آمن تحت إشراف دولي لخروج المرضى والنازحين من قطاع غزة إلى الحدود مع مصر، داخل أو خارج الأراضي الفلسطينية. وسيكون هذا نزوحًا مؤقتًا حتى يتم ترتيب إجراءات استيعابهم إقليميًا ودوليًا.
- استمرار الإدارة الأميركية في الإشارة السريعة بين الحين والآخر إلى حل الدولتين كوسيلة لذر الرماد في العيون.
- لم تحدد حكومة الكيان الصهيوني حتى الآن أي رؤية حول الوضع في قطاع غزة بعد القضاء على “حماس”. الأمر الذي فتح المجال أمام التكهنات في الدوائر الإقليمية والدولية حول نوايا الحكومة الصهيونية في هذا الصدد.
ستسغرق هذه الخطة وقتًا طويلًا لتحقيقها، وسنشهد خلال هذا الوقت العديد من التحركات والاحتجاجات والمؤتمرات والبرامج الإقليمية والدولية، ولكنها سوف تسعى في النهاية إلى فرض نفسها لتصبح أمرًا واقعًا بفعل الهيمنة الأميركية، وهي تسير الآن بخطوات متعاقبة، ستتضح أكثر بعد استكمال إجراءات فتح الممر الإنساني الآمن. وقد بدأ سكان غزة يتدفقون عبره هربًا من جحيم الدمار والقتل الذي يحيط بهم من كل حدبٍ وصوب، دون أن يفكروا في المصير الذي سيواجهونه لاحقًا، أو الاغتراب الفلسطيني الجديد الذي سيلاحقهم عند بوابات المنفى الجديد.
الصهيونية هي أبشع وأعنف وأشد أشكال الاستعمار دموية، ومن السهل أن نجد أمثلةً تغذّي العنف وتحرّض عليه في وعي وسلوك الصهيونية التي تقوم على “إتلاف العقل”. يرى الاستعمار الصهيوني نفسه ضمن مقولات عدمية تقوم على نزع الصفة الإنسانية ونهبها وتفريغ مخزون الكراهية والعدوان تجاه الشعب الفلسطيني. وهذا منظور مستمد من بنية عالمية إمبريالية، يرتكز من جهة على عقدة التفوق لدى الرجل الأبيض، ومن جهة أخرى على خطاب يستلهم من الأساطير الدينية التوراتية لتبرير السلوك الإجرامي وبهدف صياغة وعي جماعي يتشرّب فائض الغرور والتفوق على البشرية جمعاء.
الوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة لقادة الكيان الصهيوني الحاليين. يعتبر بنيامين نتنياهو نفسه تلميذًا لجابوتنسكي حيث يجسّد رؤيته لعلاقة الكيان بالفلسطينيين والعرب، ويضع الصراع في دوامة الخير والشر، انطلاقًا من توجه استشراقي يهدف إلى جذب قوى الاستعمار الإمبريالي العالمي من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية.
تبنى الكيان الصهيوني العديد من السياسات ضد الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها استخدام القوة الساحقة، ومحاولة استهداف الأمن النفسي والاجتماعي من خلال التدمير الشامل للجامعات، والمستشفيات، والمساجد، والمنازل، والمجمعات والأبراج السكنية، والمخابز والمطاحن، وفرض الحصار الشامل والخانق المتمثل بتصريح يوآف غالانت في بداية عدوان أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين قال: “سنقطع الكهرباء والغذاء والماء والوقود (عن القطاع)”.
هدف العدوان هو تهجير مليون فلسطيني بقوة النيران والدمار الشامل من شمال قطاع غزة نحو الجنوب، حيث يتجمعون هناك بلا يقين بإمكانية عودتهم إلى منازلهم التي دمرت كليًا أو جزئيًا. هذه الحرب النفسية تخلق نوعًا من عدم اليقين بين الفلسطينيين.
الصراع بين الصهاينة والفلسطينيين هو صراع بين مجتمع ظالم عدواني رسم لنفسه صورة التفوق، ومجتمع مقاوم يطالب بحريته واستعادة صورته الإنسانية بعيدًا عن تشكّله ضمن موازين القوى في العقلية الصهيونية أولًا، والإمبريالية الغربية ثانيًا. إنه صراع بين عقليتين، وشعبين، وصورتين، ومنظومتين أخلاقيتين.
لقد استعاد الفلسطينيون صحتهم النفسية بالمعنى الذي استخدمه فرانز فانون، أي من خلال العنف الثوري لاستعادة التوازن العقلي والمعرفي والعاطفي، ولتشكيل “صدمة مضادة” للاستعمار الصهيوني.
إن المعركة التي يخوضها الفلسطينيون اليوم، وكل يوم منذ نكبتهم الكبرى عام 1948، ليست موجهة فقط ضد كيان أو دولة مارقة، بل أيضًا ضد أعلى درجات الرعب والإجرام التي يتسم بها النظام الإمبريالي والاستعماري العالمي.
بقلم: مؤيد أحمد – باحث من فلسطين