افتتاحية العدد الثاني من مجلة “أصوات الكوكب الأخرى”
الديون الاستعمارية و التنمية المعاقة في المنطقة العربية /شمال افريقيا /الشرق الاوسط.
تهيمن حرب الإبادة، الصهيونية الأمريكية للشعب الفلسطيني ومعه شعب لبنان، على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي في المنطقة الناطقة بالعربية، علاوة على تداعياتها الجيوسياسية عالميا.
تواصل آلة الدمار الجهنمية قتل الآلاف، معظمهم من النساء والأطفال، وتشريد غالبية سكان قطاع غزة، وزيادة حدة الفقر والجوع ونقص المياه، وتدمير هائل للبنية التحتية والخدمات. وبالموازاة مع فوز دونالد ترامب، يُرجح أن تتوسع مساندة الامبريالية الأمريكية لحكومة اليمين الصهيوني المتطرف الساعية لإدامة الحرب، وعدم الاستقرار بكامل المنطقة، موطن أكبر احتياطيات الوقود الأحفوري وأرخصها في العالم.
هناك احتمال تصاعد تنافس مختلف الامبرياليات، منها بالأساس الامريكية والأوروبية، ثم الروسية والصينية. ستحاول هذه الامبرياليات، كل من جانبها، توطيد علاقة الاستعمار الجديد مع الأنظمة القائمة. وستتولى مؤسسات الرأسمال الكبير العالمي (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها) تكريس مصالح الشركات الامبريالية العملاقة كي تنهب ثروات الشعوب بمواصلة فرض نفس السياسات النيوليبرالية المميزة لبرامج التقويم الهيكلي منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم.
إنها سياسات قاومتها الشعوب، وانتفضت ضدها. ووصل التمرد ضدها ذروته إبان السيرورة الثورية المنطلقة من تونس نهاية سنة 2010 وبداية 2011، وامتدت لتشمل جميع الأقطار، وتلتها موجة ثانية اندلعت نهاية 2019 في لبنان والجزائر والعراق والسودان، وتوقفت جراء جائحة كوفيد. أدت، هذه الأخيرة، إلى تفجر جلي لتناقضات النموذج النيوليبرالي المعتمد بالمنطقة، وزادت تداعيات الحرب على أوكرانيا منذ بداية سنة 2022 من حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لا سيما في اقتصادات البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض (تونس والمغرب ومصر والأردن…) ناهيك عن تلك التي تشهد حالة حرب (سوريا والعراق وفلسطين المحتلة واليمن وليبيا). تدخل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، والحكومات والأنظمة السياسية القائمة، عند كل أزمة من هذه الأزمات، لترتيب حلقات ديون جديدة مشروطة بتسريع الإصلاحات الهيكلية النيوليبرالية.
تعود جذور التنمية المعاقة في المنطقة الناطقة بالعربية إلى خصوصيات نمط الإنتاج الرأسمالي والتبعية السياسية، وفقدان السيادة، وآليات الاستعمار الجديد المشيَّدة منذ بداية ستينيات القرن العشرين. لم تسمح وصفات المؤسسات المالية العالمية النيوليبرالية، المرافقة لأزمة الديون في بداية سنوات 1980، بتطوير القطاع الخاص والاستثمار، كما ادعت. وبالمقابل، أدت إلى توطيد الأنظمة الاستبدادية القائمة الريعية المسنودة بجهاز الدولة لتأبيد نهبها وقمعها الممنهج ضد أي تطلع ديمقراطي أو أي حراك مطلبي.
احتدت مديونية غالبية البلدان العربية، على مدى العقد الماضي، خصوصا في البلدان المستوردة للنفط وذلك بشكل أعلى بكثير من تلك المصدرة له التي استفادت في تنمية عائداتها من ارتفاع أسعار البترول بدءا من 2022، في الوقت الذي تقلص فيه النمو الاقتصادي بالنسبة للأولى وزاد عجز ميزانياتها نتيجة تضخم أسعار المواد والخدمات. هكذا، في سنة 2023، مثلت نسبة الدين الخام في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المستوردة للنفط، في المتوسط، حوالي 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة أعلى ثلاث مرات تقريبا من متوسط البلدان المصدرة للنفط في المنطقة، وأعلى بنسبة 50% من متوسط مجمل البلدان الناشئة والنامية المستوردة للبترول (تقرير البنك العالمي، ابريل/نسيان 2024).
نتج عن ذلك ارتفاع كبير في مبالغ سداد الديون السنوية، خصوصا وأن نسب الفائدة ارتفعت مع زيادة حجم الديون والتأمين على المخاطر منذ جائحة كوفيد. وحسب نفس التقرير، ارتفعت مبالغ سداد فوائد الديون وحدها من 2,6 % من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020 الى 3% سنة 2023 بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المستوردة للنفط، باستثناء مصر التي مثلت فيها مصاريف الفوائد نسبة 10% كمتوسط ما بين 2013 و2023. بالمقابل، استقرت نسبيا مدفوعات فوائد الديون للبلدان المصدرة للنفط في حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي.
أكيد أن آفاق توسع حرب الإبادة التي تشنها الصهيونية والامبريالية الامريكية (والأوروبية) ستفاقم مختلف أزمات الرأسمالية العالمية متعددة الأبعاد وهمجيتها وضمنها أزمة الديون التي ستشهدها على الأرجح بلداننا على نحو أشدَّ عنفا من باقي مناطق العالم الأخرى. ترعى المؤسسات المالية العالمية الاستثمار الخاص وترحيل الثروة وإدامة التخلف. وهي ماضية لجعل الأزمات فرصا لمؤسسات الرأسمال العالمي الكبير عبر ما يسمى حلولا خضراء للأزمة المناخية والبيئة وبواسطة شراكات جديدة مع الدول المصدرة للنفط والغاز في المنطقة، وتطوير مشاريع استخراج المعادن الأساسية والنادرة في البلدان المستوردة للنفط، ومحطات الطاقة الشمسية، وإنتاج الهيدروجين الأخضر خصوصا في بلدان شمال افريقيا المرتقب تحويلها إلى المزود الرئيسي للقارة الأوروبية…
تؤدي آليات هذا الاستعمار الأخضر في عصر الطاقات المتجددة الى تحميل الكلفة أساسا للشعوب على جميع المستويات، ومنها بالخصوص كلفتها المالية (مزيد من الديون والتقشف) والاجتماعية (نزع الأراضي والاستحواذ على الثروات) مع ابقائها في تبعية طاقية حادة.
لم يتسن للسيرورة الثورية التي شهدتها المنطقة أن تعالج الأزمة الاجتماعية التي كانت أساس اندلاعها. بل على العكس، فاقمت الثورة المضادة الأوضاع المعيشية لملايين الأشخاص وعمقت التفاوت الاجتماعي داخل البلدان وبينها. بلغت بطالة الشباب 24% وتعد أكبر نسبة في العالم، ولا تشمل الحماية الاجتماعية سوى قرابة 40% من السكان وهو معدل أقل من المعدل العالمي حسب منظمة العمل الدولية. بالمقابل، زادت ثروات الأثرياء العرب الذين بلغ عددهم عشرين مليارديرا بثروة قدر مجموعها بـ 57,3 مليار دولار وفق تصنيف فوربس الشرق الأوسط للأثرياء في عام 2024.
تشكل الديون المُتَضخمة، وتشَدُّد اشتراطاتها، إحدى الأدوات الرئيسية لسلب الثروات، ونهب الطبيعة، وترحيل مواردنا الى الرأسمال الغربي، في تناغم مع آليات أخرى عديدة من قبيل اتفاقيات التبادل الحر. إن أنظمة المنطقة المستبدة وكيل امبريالي يغتني من الافتراس المعمم وشبكات المحسوبية…
انطلقت الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة رافعة شعارات العدالة الاجتماعية والحرية، والكرامة الإنسانية، ولم يتسن لها بلوغ القطيعة مع نظام الديون والتبعية وتحقيق السيادة على جميع المستويات. تخلفت جل منظمات النضال، الهزيلة أصلا، المنتسبة لقضية انعتاق الشعوب وتحررها، عن مسايرة تطلعات السيرورة الثورية بالمنطقة وتجديرها. بالتالي، استعادت الثورة المضادة زمام المبادرة سنة 2013 عقب سحق الثورة السورية، وصعود نظام العسكر في مصر.
رغم أوضاع الحرب والأفق القاتم الذي نعيشه اليوم، تستمر النضالات الاجتماعية في مختلف البلدان، وهي تواصل، بأشكال مختلفة، الوقوف بوجه غطرسة الاستبداد. ولا تزال القضية الفلسطينية، في هذا السياق الرهيب، نبراس شعوب المنطقة التي ترى أن انعتاقها الحقيقي وثيق الارتباط بانتصار الشعب الفلسطيني، والقضاء على الكيان الصهيوني؛ أداة الامبريالية بالمنطقة وقبلة اليمين المتطرف بالعالم.
يأتي هذا العدد من مجلتنا، ليسلط الضوء على تجارب مختلفة من المغرب وتونس ومصر واليمن والسودان وفلسطين ولبنان والعراق وسوريا. ولا شك أن القاسم المشترك بين هذه الأقطار، أنها تعيش تحت وقع السياسات النيوليبرالية منذ عقود مخلفة تفاوتات صارخة بين أوضاعها المعيشية، علاوة على الحروب التي مزقت أوصال بعضها.
نأمل أن تشكل مجلة أصوات الكوكب الأخرى منبرا لمختلف الأصوات التي تقف الى جانب الشعوب في منطقتنا، وتساهم في التثقيف المرتبط بالمقاومات في الميدان.
هيئة تحرير المجلة
لتحميل العدد : اضغط هنا